فى توقيت كانت فيه مصر الفرعونية مطمعا لغزاة متربصين لها من الشرق والغرب والجنوب، غرق فرعون موسى وجيشه وكل قادة دولته وأركان حكمه فى البحر الأحمر ، وذلك بحسب النص القرآنى ، الذى لايمكن لمسلم حقيقى أن يشكك فى صحته ، وهذا يثير تساؤلا غاية فى الأهمية والإثارة ، يتخوف المؤرخون والعلماء الأثريون من التصدى للإجابة له ، ويفضلون توخى الصمت بشأنه ، ولا يتطرقون للحديث عنه إلا فى الغرف المغلقة ، وهذا السؤال هو “من الذى حمى مصر من غارات الغزاة بعد حدوث هذا الفراغ السياسى والعسكرى والأمنى فيها ؟”، ويرجع تخوف أهل الاختصاص من مغبة التصدى لهذا السؤال إلى أن مصر بعد رمسيس الثانى ، باعتباره الشخص المقصود ، لم تضعف ولم يقدر أحد على غزوها ، بل وقويت شوكتها فى عهد ابنه بنفتاح وخليفته فى الحكم .
وبعيدا عن صمت المؤرخين والأثريين ، فقد أجابت “موسوعة النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة” لصاحبها ابن تاغرى بردى ، وهى موسوعة من 15 جزءا ، على هذا السؤال المحير للجميع، حيث أوضحت أن فرعون الذى غرق أثناء مطاردته لنبى الله موسى لم يكن رمسيس الثانى ، وإنما كان ملك شامى من أصل سورى ، وبمجرد غرقه وزال جيشه وكل أركان دولته ، وفقا لمعومات الموسوعة، انتبهت سيدة مصرية أصيلة وقوية ، تدعى “دلوكة” لما يمكن أن تئول إليه الأمور على خلفية ذلك الحدث الكارثى ، وفطنت أن مصر حكما وشعبا سوف تنهار بلا رجعة ، فاعتلت فرسها ، وقالت أنا لها ، فى مشهد أشبه بمشهد سيف الدين قطز ، فى حقبة تاريخية مغايرة، أثناء رده على تهديدات التتار له، فالتف حولها المصريون عن طيب خاطر، وأطاعوها الطاعة الواجبة وعاونوها لتحقيق الهدف السامى الذى همت لتحقيقه ، وبالفعل استطاعت من خلال التحامها بالشعب المصرى، أن تحافظ على الدولة المصرية من الزوال وحصنتها من غزاة المشرق والمغرب.
ولم تكن المهمة سهلة أمام دلوكة ، حيث بذلت جهودا مضنية للحفاظ على الدولة وكبح جماح الغزاة والتصدى لهم بخطط عسكرية بارعة وماكرة ، منها أنها قامت ببناء حائط يحيط بمصر كلها من كل جانب، وجعلت عليه حراس وأجراس وعينت عليه رجالا ، تتصل أصواتهم ببعضها البعض ، ويعرف هذا الحائط باسم حائط العجوز ، وأحكت دلوكة آلات السحر وبنت الروابى وكسرة كل من فكر فى غزو مصر أو الإغارة عليها ، وحكمت مصر 30 سنة ، حققت خلالها انتصارات رائعة على أعداء الدولة المصرية آئنذاك.
وقد استطاعت دلوكة أن تفعل ذلك بخدعة عسكرية ماكرة ، وهى وضع إبل وخيل على روابى ، تفزع بشدة وتصهل بقوة ، بمجرد رؤيتها لجيوش العدو ، وتسبب بفزعها الهلع فى صفوف الجيش الغازى ، فيتفرق ، لينقض عليه جيش دلوكة ليدكه فى الحال، وذلك بحسب معلومات الموسوعة المشارة إليها ، وهى المعلومات التى جاءت أيضا فى كتب مؤرخين أمثال المقريزى.
وأجمل ما فى قصة دلوكة ، حال افتراض صحتها ، أنها حكمت مصر فى ظروف أقسى وأصعب وأعقد بكثير ، من تلك الظروف السياسية والاجتماعية التى شهدتها مصر فى السنوات الست الأخيرة ، أى منذ اندلاع ثورة 25 يناير وحتى الآن ، فضلا عن كونها قصة تكشف أن النبوغ السياسى والقدرة على الحكم والقيادة والرئاسة ليست حكرا على الرجل ، وبالتالى يمكن البناء عليها لتهيئة المناخ المناسب لتمكين المرأة المصرية فى العهد الحالى وايصالها إلى مناصب أكبر ومراتب أعلى فى الدولة المصرية.
وحول هذه القصة ، قال الأستاذ الدكتور محمد حمزة عميد كلية الآثار ، جامعة القاهرة ، إن هذا الكلام موجود بالفعل فى كتب مؤرخين ، تم كتابتها قبل فك طلاسم حجر رشيد ، وقد ساقها مؤرخون كبار ، أمثال المقريزى ، ولكن يعاب عليها ويقلل من مصداقيتها ، أنها مأخوذة من علم ، كان يسمى علم العجائب ، قبل العصر الحديث ، ومعظمه منقول عن أساطير توراتية ، ونقله الأقباط القدامى عن اليونانيين ، وهو علم أشبه بالأساطير.
الدكتور محمد حمزة ، أكد أن سؤال من حمى مصر بعد غرق فرعون مهم للغاية ، فى ظل أن الحدث يعد حقيقة ثابتة بالنص القرآنى ، على الرغم من عدم وجود أى أدلة تاريخية أو أثرية تؤكد أو تنفى صحة هذا الكلام ، قائلا : إذا افترضنا جدلا أن فرعون موسى هو رمسيس الثانى طبقا لأرجح الروايات ، فإن هذا الكلام لاينطبق على رمسيس الثانى ، لأن الدولة المصرية ظلت قوية فى عهده وبعد وفاته ، لاسيما وأنه كان قد عقد معاهدة سلام مع الحيثيين ، ونفس الشىء ينطبق على ابنه بنفتاح الذى تولى الحكم بعده، موضحا أن بداية الضعف الحقيقى لمصر الفرعونية كان فيما يعرف بالعصر المتأخر الأول من الأسرة 21 إلى 25 ، والتى تعرضت خلاله للغزو الليبىوالسودانىوالفارسى ، وذلك حتى استعادت قوتها فى العصر الصاوى ، أى خلال حكم الأسرة 26 ، والذى يعرف باسم عصر النهضة الثانى.
وعلى الرغم من اعتراف “حمزة” بأن هناك نقشا على أحد الحوائط يشير إلى “دلوكة” ، إلا أنه أكد على أنه لايكفى لإثبات صحة الكلام بشأن قصتها ، ووصف الكلام عنها بأنه كلام غير علمى وخرافات لا أساس لها من الصحة ، ونقلها المؤرخون المسلمون من المؤرخين الإخباريين من أهل الكتاب ، وكلها عبارة عن روايات إسرائيلية ، ولا تستقيم مع الأدلة الأثرية الباقية ومع التسلسل التاريخى لأحداث مصر المختلفة ، لافتا إلى حقيقة علمية مهمة ، وهى أن علم الآثار المصرية القديمة قائم على الظن والتخمين ، لأنه يعتمد دليل واحد ، وهو الأثر نفسه ، ولا توجد مصادر تاريخية معاصرة تؤكد صحة الاستنتاج المنيى عليه من عدمه.
وشدد “حمزة” على أن المشكلة تكمن فى أنه لا يوجد إمكانية لاستنطاق الأثر ليجيب على كل الأسئلة التى تدور فى ذهننا عنه ، مستشهدا فى ذلك بأن وجود الأهرامات كأثر وكأمر واقع ، لم يجيب عن أهم سؤال يثور فى الأذهان بشأنها ، وهو كيف بنيت ومن بناها؟
وفى ذات السياق ، لم ينفى الدكتور أيمن فؤاد أستاذ التاريخ الإسلامى بكلية الآثار جامعة القاهرة ، رئيس الجمعية المصرية للدراسات التاريخية ، مدير مركز تحقق النصوص بدار الكتب والوثائق المصرية ، وجود نقش يسمى بحائط العجوز ، ولكنه قال فى الوقت نفسه: ” لا يوجد نص تاريخى مسجل يؤكد هذه الأحداث ، ويمكن من خلاله التيقن من حدوثها أو عدم حدوثها ، ومن وجوده أو عدم وجوده “، أو يؤكد على وجود تلك السيدة العجوز المسماة بـ “دلوكة” ، موضحا أن بعض الناس تفسر ذلك بأن الفراعنة لم يكونوا يسجلون سوى الانتصارات فقط ، مستشهدا على احتمال صدق تلك الفرضية بأن الحيثيين نقشوا ما يفيد بأنهم انتصروا فى حروب هزموا فيها بالفعل أمام جيوش مصر الفرعونية، وهو ما فعله أيضا رمسيس الثانىفى حروب هزم فيها أمام جيوش أعدائه.
الدكتور أيمن فؤاد أكد أن فرعون موسى غير معلوم حتى الآن ، ولا يعرف أحد ما إذا كان رمسيس الثانى ، أم ابنه بنفتاح ، وعاب على موسوعة النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة ، بأن كاتبها مات قبل 874 هجرية ، أى قبل علم الحفريات، وبالتالى فإن كلامه مجرد اجتهاد نظرى وليس كلاما علميا يفضى إلى حقائق جازمة .
وشكك “فؤاد” فى صحة ما جاء فى الموسوعة بأن فرعون موسى من سوريا ، و وصف ذلك بأنه مجرد اسطورة ، مدللا على مصداقية وجهة نظره العلمية ، بأنه لا توجد دلائل قوية على “دلوكة” فى النقوش سوى ما يسمى بـ “حائط العجوز، موضحا أنها موجودة فى كتب التاريخ القديم وغير موجودة فى كتب التاريخ الحديث.
وعلى الرغم من الأهمية العلمية لكلام أهل الاختصاص فى ذلك الموضوع المهم ، إلا أنه تبقى حقيقية لايمكن لأى أحد أن يشكك فيها ، وهى أن عدم وجود نص تاريخى ليس دليلا على عدم ثبوت صحة الحدث ، بدليل أنه لايوجد نص تاريخى يؤكد وقوع أحداث أخرى لاتقل من حيث الأهمية التاريخية والإنسانية والدينية عن حادث غرق فرعون موسى ، ودلوكة العجوز ، على الرغم من وجود نصوص قرآنية وأخرى دينية تؤكد وقوعها كحقيقة.