حديث الروح بين الشكوى وجواب الشكوى

وجهات نظر , Comments Disabled

بينما كنت أقود سيارتى فى طريقى للعمل إذا بإذاعة زمان التى أتابع برامجها القديمة تبدأ إذاعة حفل قديم لأم كلثوم يرجع إلى عام1967 عام النكسة إياها.ومن مزايا تلك الحفلات التى تذيعها تلك الموجة أنها تذيع تفاصيل الحفل بداية من الانتقال للإذاعة الخارجية ونهاية بنهاية الأغنية.
الأغنية التى كانت تذيعها الموجة القديمة هى”حديث الروح” ولها بين ماقدمته أم كلثوم موقع مميز من الغناء الفصيح العميق الذى يستحق السماع،فكثير منه يغنى عن ثرثرات كثيرة فوق المنصات عن اللغة العربية وجمالها وأشعارها الوطنية والدينية والعاطفية،فقد وصلت بها أم كلثوم إلى الفلاح فى حقله والصانع فى مصنعه والمستمع فى بيته وأجرت على لسانه كثيرا من الأبيات والمعانى التى لم يعرف إليها سبيلا سوى بصوت تلك السيدة ،ولعل ماقدمته بغناء القصائد الفصحى كان أجدى من كثير من الحلقات والورش والبرامج ،بل المقررات الدراسية الجافة التى لم تفلح فى صنع ذائقة جمالية لأجمل وأكمل لغات العالم.
وقبل أن تبدأ أم كلثوم غناء القصيدة سبقتها كلمات من سفير باكستان آنذاك بمصر متحدثا عن محمد إقبال ودوره فى بناء باكستان،ثم إلقاء للقصيدة بصوت أم كلثوم دون غناء،ثم غناء القصيدة كما سمعها الناس وتفاعل معها حضور الحفل تلقائيا مستمعين مستمتعين متذوقين رغم عمق معانى القصيدة وبُعْد أغوارها الفلسفية وجمالياتها العالية.
وللقصيدة تاريخ يستحق إلقاء الضوء عليه فهى مزيج من قصيدتين للفيلسوف إقبال اسمهما:”شكوى “و”جواب شكوى” كتبهما الشاعر الباكستاني محمد اقبال باللغة الأردية و نشرهما في ديوانه صلصلة الجرس و نقلها للعربية شعرا رائعا الشاعر الأزهري الصاوى شعلان. لكن الصديق الكبير الدكتور النبوى شعلان ابن شقيق الشاعر الصاوى شعلان له رأى حول ترجمة القصيدة حيث يقول:
كنت كتبت منذ زمن بعيد بحثا بعنوان أثر الغناء في إذاعة الشعر وانتشاره
هذا والذي نعرفه أن عمي الشيخ الصاوي شعلان كان يجيداللغة الأردية ونقل منها الشعر مباشرة وليس عن طريق الأستاذ الأعظمي
وبرغم أن كل أشعار إقبال كتبها باللغة الفارسية إلا هاتان القصيدتان فقد كتبتا بالأردية فقصيدة الشكوى كتبت في عام 1909 و قصيدة جواب الشكوى كتبت في عام 1913 حيث يحاول الفيلسوف محمد إقبال بث شكواه وشجونه حول الدور الحضارى للمسلمين في التاريخ. و يتألم لحال المسلمين في كل اقطار الأرض ويحاول مواجهة المشكلات الحضارية لذلك كانت الشكوى لله لما وصل إليه حال الأمة الإسلامية وجواب الشكوى كانت جوابا من الله للمسلمين على شكواه، اثر نشره قصيدة الشكوى هاج العلماء ضده وأخذوا يهاجمونه ولكن عندما قام بنشر قصيدة جواب الشكوى زالت المشاحنات واللغط الذي دار حول القصيدة فكانت جواب الشكوى إرضاء للعلماء.
وقصيدة “شكوى” تضم 120 بيتاً وقصيدة “جواب الشكوى” أطول فهي تقع في 140 بيتاً. ترجمها محمد حسن الأعظمي إلى العربية نثراً ضمن قصائد أخرى وقدمها للشاعر المصري الصاوي شعلان والذي أعاد كتابتها شعرا رائعا مثيرا للوجدان والعقل فى آن واحد.
ونظرا لطول القصيدتين وصعوبة نشرهما كاملتين أورد بعض أبياتهما،ففى “شكوى” يقول إقبال:
والورد في الأكمام مجهولُ الشَّـذا *** لا يُرتجى وردٌ بغير نسيـمِ
بل كانتِ الأيام قبل وجودنـا *** ليلاً لظالمها وللمظلـومِ
لما أطل محمدٌ زكت الرُّبـى *** واخضرَّ في البستان كلُّ هشيـمِ
وأذاعت الفردوسُ مكنونَ الشـذا *** فإذا الورى في نضرةٍ ونعيـمِ
من قام يهتف باسم ذاتك قبلَنـا *** مَنْ كان يدعو الواحد القهَّـارا
عبدوا تماثيلَ الصخور وقدَّسـوا *** مِن دونك الأحجار والأشجـارا
عبدوا الكواكب والنجوم جهالـةً *** لم يبلغوا من هَديها أنـوارا
هل أعلن التوحيدَ داعٍ قبلنَـا *** وهدى الشعوب إليك والأنظـارا
كنَّا نُقدِّم للسيوف صدورَنـا *** لم نخش يوماً غاشمًا جبَّـارا
قد كان في اليونان فلسفةٌ وفي الـرُّ *** ومانِ مدرسةٌ وكان المُلك في ساسـانِ
لم تُغنِ عنهمْ قوة أو ثـروةٌ *** في المال أو في العلم والعرفـانِ
وبِكلِّ أرض سامريٌّ ماكـرٌ *** يكفي اليهودَ مؤونةَ الشيطـانِ
والحكمة الأولى جرَت وثنيَّـةً *** في الصين أو في الهند أو تُـورانِ
نحن الذين بِنور وحيكَ أوضحـوا *** نهجَ الهدى ومعالم الإيمـانِ
من ذا الذي رفعَ السيوف ليرفع اسْـ *** ـمكَ فوق هامات النجوم منـارا
كنا جبالاً في الجبال وربمـا *** سِرنا على موج البحار بحـارا
بمعابد الإفرنج كان أذانُنـا *** قبلَ الكتائب يفتح الأمصـارا
لم تنس إِفْرِقْيا ولا صحراؤُهـا *** سجَداتِنا والأرضُ تقذف نـارا
وكأنَّ ظلَّ السيف ظل حديقـةٍ *** خضراءَ تنبت حولنا الأزهـارا
لم نخش طاغوتًا يحاربنا ولـوْ *** نصبَ المنايا حولنا أسْـوارا
ندعو جهارًا لا إله سوى الـذي *** صنع الوجود وقدَّر الأقـدارا
أما “جواب الشكوى ” فجاء فى بعض أبياتها:
كلامُ الرُّوح للأرواح يسْـري *** وتُدركهُ القلوبُ بلا عنـاءِ

هتفتُ به فطارَ بلا جنـاحٍ *** وشقَّ أنينُه صدرَ الفضـاءِ

ومعدنُه ترابيٌّ ولكـنْ *** جرتْ في لفظه لغةُ السمـاءِ

لقد فاضت دموعُ العشقِ منِّـي *** حديثا كان عُلويَّ النِّـداءِ

فحلَّق في رُبى الأفلاك حتَّـى *** أهاجَ العالمَ الأعلى بُكائـي

تَحاورت النجومُ وقلن صـوتٌ *** بِقرب العرش موصولُ الدعـاءِ

وَجاوبت المجرَّةُ علَّ طيفـًا *** سَرى بين الكواكب في خفـاءِ

وقال البدرُ هذا قلب شـاكٍ *** يواصل شدوَه عند المسـاءِ

ولم يعرف سوى رِضوانَ صوْتِـي *** وما أحراهُ عندي بالوفـاءِ

ألم أك قبلُ في جنات عـدنٍ *** فأخرجني إلى حينٍ قَضائـي

وقيل هو ابن آدمَ في غُـرور *** تجاوز قدره دونَ ارْعـواءِ

لقد سجدتْ ملائكةٌ كـرامٌ *** لهذا الخلق من طينٍ ومـاءِ

يظنُّ العلم في كيفٍ وكـمٍّ *** وسرُّ العجز عنه في انطـواءِ

ومِلءُ كؤوسه دمعٌ وشكوَى *** وفي أنغامه صوتُ الرجـاءِ

فيا هذا لقد أبلغتَ شيئـًا *** وإن أكثرت فيه من المِـراءِ

عطايانا سحائبُ مرسـلاتٌ *** ولكنْ ما وجدنا السَّائلينـا

وكلُّ طريقنا نَوْرٌ ونُـورٌ *** ولكن ما رأينا السَّالكينـا

ولم نَجدِ الجواهرَ قابـلاتٍ *** ضياءَ الوحي والنورَ المبينـا

وكان ترابُ آدمَ غيرَ هـذا *** وإن يكُ أصلُه ماءً وطينـا

ولوْ صدقوا وما في الأرض نهـرٌ *** لأجريْنا السماء لهم عُيونـا

وأخضعنا لمُلكهمُ الثُّريَّـا *** وشيَّدنا النجوم لهم حُصونـا

ولكنْ ألحدوا في خير ديـنٍ *** بنى في الشمس مُلك الأوَّلينـا

تراثُ محمَّدٍ قد أهملـوه *** فعاشوا في الخلائق مُهمَلينـا

تولَّى هادِمو الأصنام قِدمـًا *** فعادَ لها أولئك يَصنعونـا

أباهم كان إبراهيمُ لكـنْ *** أرى أمثال آزرَ في البنينـا

وفي أسلافكمْ كانت مَزايـا *** بكل فَمٍ لذاكرها نشيـدُ

تضُوعُ شقائقُ الصحراءِ عِطْـرًا *** بريَّاها وتبتسمُ الـورودُ

فهلْ بقيَتْ محاسنُهمْ لدَيكُـمْ *** فيجمُلُ في دلالكم الصُّـدودُ

لقد هامُوا بخالقهم فَنـاءً *** فلم يُكتب لغيرهِمُ الخلـودُ

وكوثرُ أحمدٍ مِنكم قريـبٌ *** ولكنْ شوقُكم عنه بعيـدُ

وكمْ لاح الصَّباحُ سَنًا وبُشـرى *** وأذَّنتِ القَماري والطُّيـورُ

وكبَّرت الخمائل في رُباهـا *** مُصلِّيةً فجاوبها الغديـرُ

ونومُ صباحكم أبدًا ثقيـلٌ *** كأنَّ الصبح لم يُدركه نـورُ

وأضحى الصَّومُ في رمضان قيـدًا *** فليس لكم به عزمٌ صبـورُ

تمدُّنُ عصرُكم جمعَ المزايـا *** وليس بغائبٍ إلا الضميـرُ

لقد ذهب الوفاءُ فلا وفـاءٌ *** وكيف ينالُ عهدي الظَّالمينـا

إذا الإيمانُ ضاعَ فلا أمـانٌ *** ولا دُنْيا لمن لم يُحْيِ دِينـا

ومَنْ رَضِيَ الحياةََ بِغَير ديـنٍ *** فقد جعل الفَناء لها قَرينـا

أما ماشدت به أم كلثوم جامعا بين القصيدتين فتقول أبياته:
حديث الروح للارواح يسرى
وتدركه القلوب بلا عناء
هتفت به فطار بلا جناح
وشق انينه صدر الفضاء
ومعدنه ترابى ولكن
جرت فى لفظه لغه السماء
لقد فاضت دموع العشق منى
حديثا كان علويا ندائى
فحلق في رُبا الافلاك
حتى اهاج العالم الاعلى بكائى


تحاورت النجوم وكل صوت
بقرب العرش موصول الدعاء
وجاوبت المجره عل طيفا
سرى بين الكواكب فى خفاء
وقال البدر هذا قلب شاكٍ
يواصل شجوه عند المساء
ولم يعرف سوى رضوان صوتى
وما احراه عندى بالوفاء
شكواى ام نجواى فى هذا
الدجى ونجوم ليلى
حسدى أم عودى


أمسيت فى الماضى أعيش
كأنما قطع الزمان
طريق امسى عن غدى
والطير صادحـــة على افنـــــــانها
تبـــكى الربى بأنينها المتجــــــــدد
قد طال تسهيدى وطــــــال نشيدها
ومدامعى كالطل فى الغصن الندى
فالى متى صمتى كأنى زهـــره
خرساء لم ترزق براعة منشد


قيثارتى ملئت بأنات الجوى
لا بد للمكبوت من فيضــان
صعدت الى شفتى خواطر مهجتى
لتبين عنها منطقى ولسـانى
أنا ما تعديت القناعـة والرضا
لكنما هى قصة الاشجـان
يشكو لك اللهم قلـب لم يعش
الا لحمد علاك فى الاكـوان


من قام يهتف باسم ذاتك قبلنا
من كان يدعو الواحد القهارا
عبدوا الكواكب والنجوم جهالة
لم يبلغوا من هديها أنوارا
هل اعلن التوحيـد داع قبلنا
وهدى القلوب اليك والانظارا
ندعوا جهارا لا اله سوى الذى
صنع الوجود وقد الاقــدارا


اذا الايمان ضاع فلا أمان
ولا دنيا لمن لم يحى دينــا
ومن رضى الحياة بغير دين
فقد جعل الفنـاء له قرينا
وللتوحيد للهمم اتحـاد
ولن تبنوا العـلا متفرقينا
الم يبعث لامتكم نبى
يوحدكم على نهج الوئــــام
ومصحفكم وقبلتـكم جميعا
منار للاخـوة والسلام
وفوق الكل رحمان رحيم
اله واحد رب الأنــــــام
وكان شدو أم كلثوم بالأبيات المختارة من القصيدتين على أنغام الموسيقار رياض السنباطى أهم عوامل انتشار القصيدة وشهرتها فى البلاد العربية.وكانت اختيارا عبقريا فى لحظات الهزيمة لتبيين أسباب تأخر المسلمين وترديهم ُم السبيل للعودة لسابق مجدهم بالاتحاد:
وفى التوحيد للهمم اتحاد
ولن تبنوا العلا متفرقينا..

وأخيرا أضاف الصديق العزيز الدكتور طلعت عبدالرحمن المقيم بالولايات المتحدة الأمريكية منذ نصف قرن معلومة مهمة حول غناء القصيدة وكان شاهدا عليها، حيث يقول تعليقا على المنشور: وافقت ام كلثوم علي غناء هذه القصيدة بطلب من دولة باكستان وقد دفعت السفارة الباكستانية لأم كلثوم مبلغ 200 جنيه استرليني وقد كان في حوزتي صورة من استمارة “ع” حيث كنت اعمل في مراقبة النقد بالبنك الاهلي فرع ثروت.
رحم الله إقبال وأم كلثوم والسنباطى ومترجم القصيدة الصاوى شعلان.


بحث

ADS

تابعنا

ADS