حكم قول احنا زارنا النبي، يرغب البعض في معرفة الحكم الشرعي لمقولة إحنا زارنا النبي.
حكم قول احنا زارنا النبي
ورد إلى دار الإفتاء سؤال يقول ما حكم ما يقوله المصريون من كلمة: (احنا زارنا النبي) صلى الله عليه وآله وسلم للضيف عند قدومه؟ وهل هذا يجوز شرعًا؟ حيث إن بعض الناس قال لي: اتق الله في ألفاظك فهذه العبارات تخالف العقيدة، وهل تساوي زيارة أحد بزيارة النبي عليه الصلاة والسلام؟
ومن جانبها قالت دار الإفتاء إن الزيارة هي: قصد إنسانٍ زيارة غيره إكرامًا له وإدخالًا للفرح والسرور على قلبه، وملاطفته واستئناسًا به.
قال الإمام المناوي في “فيض القدير” (1/ 366، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [والزيارة عرفًا قصد المزور إكرامًا له وإيناسًا به] اهـ.
والزيارة من الأسباب التي تجعل الإنسان يحظى بمحبة الله سبحانه وتعالى؛ لما فيها من إزالة الجفوة من النفوس بين الناس، وتقوية الروابط الاجتماعية والعلاقات الإنسانية؛ فقد ورد عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ، وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ، وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ» أخرجه الإمام الترمذي في “سننه”، والإمام أحمد في “مسنده”.
قال الإمام ابن علان الشافعي في “دليل الفالحين” (3/ 256، ط. دار المعرفة): [والمراد أنَّ فاعل كل هذه الأمور.. إذا كان لوجه الله تعالى لا لعرض فانٍ، ولا لغرض؛ فإنه تجب له محبة مولاه] اهـ.
وتابعت دار الإفتاء عبر موقعها الرسمي إن الإسلام جعل إكرام الضيف أصلًا في كمال الإيمان بالله تعالى وسنة من سنن المرسلين، وقد أصَّلَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاعدة ذلك؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَليُكْرِمْ ضَيفَهُ» رواه البخاري ومسلم في “صحيحيهما”؛ قال الإمام ابن بطال في “شرح صحيح البخاري” (9/ 310، ط. مكتبة الرشد): [يعنى مَن كان إيمانه بالله واليوم الآخر إيمانًا كاملًا فينبغى أن تكون هذه حالُهُ وصفته؛ فالضيافة من سنن المرسلين] اهـ.
حكم قول احنا زارنا النبي عليه السلام للضيف عند قدومه للزيارة
اعتاد الناس في مصر المحروسة وغيرها قول: (احنا زارنا النبي) لمن أتى لهم زائرًا، ومراد القائل بذلك: إدخال السرور على الزائر بإظهار رجاء حلول بركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المجلس عند مجيء هذا الزائر، وهذا من أحب الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى؛ لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْمُسْلِمِ» أخرجه الطبراني في معاجمه: “الكبير” و”الأوسط” و”الصغير”.
فهذا القول من العادات الحسنة، التي فيها جبر خاطر الزائر وإدخال السرور على قلبه؛ لأن ذلك الشخص لم يجد من العبارات ما يعبر به عن مدى سعادته بزيارة ذلك الضيف، سوى أن يشبهه وكأنه قد هلَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أمر مستحسن شرعًا؛ فإنَّ التعود على مثل هذا القول يثير لواعج القلوب، ويبعث الهمم الكوامن والعزائم السواكن إلى أشرف الخلائق، ويزيد من اتصال الأمة بنبيها صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإن المسلمين تهفو نفوسهم إلى زيارة سيد المرسلين وخاتم النبيين ورحمة الله للعالمين صلى الله عليه وآله وسلم، وإلى ذكر اسمه الشريف، والتعلق به؛ فيُدخل القائل بذلك السرور على قلب أخيه المسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ لَقِيَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ بِمَا يُحِبُّ لِيُسِرَّهُ سَرَّهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أخرجه الدولابي في “الكنى والأسماء”، والطبراني في “المعجم الأوسط” من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
وهذه الكلمة ممَّا جرى بها العرف، وإن الشارع قد راعى أعراف الناس وعوائدهم، فجعلها معتبرةً، بل استحسنها ما لم تخالف نصًّا؛ فقال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: 199]، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا، فَهُوَ عِنْدَ اللهِ حَسَنٌ، وَمَا رَأَوْا سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللهِ سَيِّئٌ» أخرجه الإمام أحمد في “المسند”، والطبراني في “المعجم الأوسط” وصححه الحاكم في “المستدرك”.
ولا ريب في أنَّ مَن يقول هذه الكلمة لا يقصد بها المعنى الحقيقي، وهو أنَّ الزائر هو ذات الجناب النبوي الشريف صلى الله عليه وآله وسلم وإنما يقصد معنًى آخر لا يتبادر إلى الذهن غيره، وهو التعبير عن الترحيب بالضيف، والحفاوة به، وحسن إكرامه، بالتبرك باسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند حلول هذا الضيف؛ ممَّا يزيد الضيف فرحًا واستبشارًا.
نقل اللفظ من معناه الحقيقي إلى معناه المجازي بدلالة العرف
قرَّر الفقهاء أنَّ الناس إذا أطلقوا عبارة وقصدوا بها معنى غير الذي تدل عليه حقيقة الكلمة أو ظاهرها المتبادر إليه؛ فهذا المعنى الذي تعارفوا عليه ثابت بدلالة العرف، والثابت بدلالة العرف كالثابت بدلالة النص.
قال الإمام السرخسي في “المبسوط” (4/ 227، ط. دار المعرفة): [الثابت بدلالة العرف كالثابت بدلالة النص] اهـ.
وقال العلامة شيخي زاده في “مجمع الأنهر” (2/ 9، ط. دار إحياء التراث العربي): [التعيين بالعُرف كالتعيين بالنص] اهـ.
وما تعارف عليه الناس من أن هذه الكلمة لا يُفهم منها عند إطلاقها سوى الترحيب بالضيف، والحفاوة به، وحسن إكرامه، هو الضابط الذي ينقل به اللفظ من معناه اللغوي إلى ما تعارف الناس عليه؛ فلا يشك أحد في أن هذا المعنى هو الذي يتبادر إلى الذهن عند إطلاق هذه الكلمة دون غيره.
قال الإمام القرافي في “الفروق” (1/ 175، ط. عالم الكتب): [وضابط النقل: أن يصير المنقولُ إليه هو المتبادر الأول من غير قرينة، وغيرُه هو المفتقِرُ إلى القرينة؛ فهذا هو مُدرَكُ القولين، فاتفق أشهب وابن القاسم على أن النقلَ العرفي مقدمٌ على اللغة إذا وجد] اهـ.
ومقتضى ذلك: أنَّ العرف نقل هذه المقولة للدلالة على معنى غير معناها المفهوم من دلالتها اللفظية أو اللغوية، والعلماء على أن النقل العرفي مقدم على دلالة اللغة.
قال الإمام القرافي في “الفروق”(1/ 173): [النقل العرفي يُقَدَّم على موضوع اللغة؛ لأنه ناسخٌ لِلُّغة، والناسخ يُقَدَّم على المنسوخ، فهذا هو معنى قولنا: إن الحقائق العرفية مقدمةٌ على الحقائق اللغوية] اهـ.
وقال أيضا في “شرح تنقيح الفصول” (1/ 211، ط. شركة الطباعة الفنية المتحدة): [دلالة العرف مقدمة على دلالة اللغة] اهـ.
وهذه الكلمة لا يُفهم منها أيَّ نوعٍ من التقليل من شأن حضرة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ بل تدل على كمال تعظيم المصريين له عليه الصلاة والسلام، وتعلقهم به، وارتباطهم باسمه الشريف؛ حتى لا ينفكّ حالٌ من أحوالهم عنه، فإطلاق الناس لهذه العبارة لا يقصد به إلا أفضل الوجوه الممكنة لحمل العبارة عليها وهو الوجه المذكور، ومع أن أوجه العبارة كلها حسنة؛ إلا أنَّ العلماء شدَّدوا ونبَّهوا على أنّ كلام الناس إذا تردّد بين الصحة وغيرها؛ فإنه يُحمل على المعنى الصحيح منه؛ لما روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال “لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءًا وأنت تجد لها في الخير محملًا”.
وفي لفظ: “لا تظنن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرًّا وأنت تجد لها في الخير محملًا”.
قال العلامة السرخسي الحنفي في “المبسوط” (19/ 178، ط. دار المعرفة): [الصحة مقصود كلِّ متكلم؛ فمهما أمكن حمل كلامه على وجه صحيحٍ يجب حمله عليه] اهـ؛ وقال أيضًا (17/ 197): [مطلق كلام العاقل محمولٌ على الصحة ما أمكن؛ لأن عقله ودينه يدعو به إلى التكلم بما هو صحيح] اهـ.
وممَّا يُستأنس به: أنه من السُّنَّة: اقتران الأفعال والأحوال والمناسبات بمقولات حسنة مناسبة؛ كدعاء المسلم لأخيه عند رؤيته بلباس جديد، ودعائه له بالشفاء عند مرضه، وكذلك عند استيقاظ الإنسان من النوم، ونحو ذلك؛ كما قاله الإمام النووي في “الأذكار” (ص: 162، ط. دار الفكر)، والعلامة ابن عابدين الحنفي في “رد المحتار” (2/ 169، ط. دار الفكر)؛ فلا يُسْتَبعد أن يكون إطلاق هذه العبارة عن مجيء الضيف من هذا القبيل.
حكم قول احنا زارنا النبي
واختتمت دار الإفتاء قائلة إنه بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فما اعتاده المصريون من قولهم للزائر: (احنا زارنا النبي) هو من العادات المستحسنة، التي يقصدون بها حصول بركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مجلس الزيارة استبشارًا بقدوم الزائر؛ لما فيها من جبر خاطر الزائر وإدخال الفرح على قلبه، وإثارة لواعج الشوق وبعث الهمم الكوامن والعزائم السواكن إلى أشرف الخلائق، والاستزادة من اتصال الأمة بنبيها صلى الله عليه وآله وسلم.