غياب الحكومة عن اجتماعات مجلس الأمة باطل وجواز عقد الجلسات في غيابها صحيح.
بدأت بخلاصة ما سأنتهي إليه في نهاية هذا العرض كون الكويت لا تتحمّل ولم تعد تتحمّل هذه الهرطقة السياسية التي شلّت البلاد والعباد. في هذا المجلس والذي سبقه والمجالس الأخرى، تصرّفت الحكومات مع المادة 116 من الدستور بطريقة مُخالفة لروحيّة النص وجوهرها التعاون، ولذلك فعندما ننادي، وسنبقى ننادي، بتعديلات دستورية تشمل النظام الانتخابي وقيام مجلسين فإننا أيضاً نلفت النظر إلى وجوب إدخال تعديلات توضيحيّة حاسمة بالنسبة إلى بعض المواد لوضع حدود لمسألة التعطيل وعدم ترك الأمور غامضة ومفتوحة على تأويلات الخبراء.
بالعقل، والمنطق، والفطرة إن أردتم، الوزير عندما يُقسم أمام مجلس الأمة يصبح عضواً في المجلس وله الحقّ في التصويت، وعليه فإن أعضاء المجلس يتمدّدون إلى 64 أو 65 نائباً حسب عدد أعضاء التشكيل الحكومي، وبالتالي فإن النصاب يُحسب وفق عدد الحضور والقرارات تحسم بغالبية الموجودين.
هناك من يرى أن من حقّ الحكومة ضمن اللعبة السياسية أن تناور في مسألة ترى أنها مُهمّة جداً وتقتضي غيابها، وهنا نعود إلى روح الدستور وحدود التعطيل. فالمادة 116 تنصّ على «يسمع رئيس مجلس الوزراء والوزراء في مجلس الأمة كُلّما طلبوا الكلام، ولهم أن يستعينوا بمن يريدون من كبار الموظفين أو ينيبوهم عنهم، وللمجلس أن يطلب حضور الوزير المختص عند مناقشة أمر يتعلّق بوزارته. ويجب أن تُمثّل الوزارة في جلسات المجلس برئيسها أو ببعض أعضائها».
اقرأ أيضا
جاسم مرزوق بودي يكتب: حدثتني سارة عن السعوديات
هنا التفريق مُهمّ بين القراءة التقنية لنص المادة والقراءة الدستورية، وبين التفسير القائم على وجوب حضور الجلسات من باب الأصول والضرورة والمُشاركة المطلوبة في القرار وبين كون هذا الحضور شرطاً لصحة انعقاد الجلسات.
إذا كان من يُفسّر المادة 116 بمنطق الحكومات يعتبر حضورها شرطاً، فلماذا سمح الدستور بتعطيل أعمال المجلس شهراً واحداً؟ هنا يوجد تحديد ويوجد سقف زمني وتوجد مُهلة قصوى لا تتكرّر في دور الانعقاد الواحد. والمُشرّع أراد من هذه المادة أن يضمن سير عمل السلطات وخصوصاً التشريعيّة منها من دون أي عراقيل.
وأيضاً، في حال استمرّت الأزمات ووصل عدم التعاون إلى أمور قد تنعكس سلباً على مسار الحياة الديموقراطية والنطاق الوطني العام، أجاز الدستور في المادة 107 لسمو الأمير بأن يحلّ مجلس الأمة على أن تُجرى انتخابات في مهلة أقصاها شهران. أي رغم الخطوة الكبيرة المُمثّلة بحلّ البرلمان إلا أنّ هناك سقفاً مُحدّداً لعودته… وأيضاً من أجل استمرار عمل السلطات وعدم التعطيل.
الأمر الذي يعتبر «هرطقة» وإن استند أصحابه على النص الحرفي للمادة 116 هو قرار الحكومة بتعطيل الجلسات من باب عدم حضورها، فكيف يستوي الأمران في الدستور؟ هناك شروط صارمة لعدم التعطيل ومُدد زمنية واضحة لاستمرار العمل وتيسير أمور الناس والتشريع والرقابة وهناك من يريد تفسير مادة بغير المقصد الذي ذهبت إليه.
فحضور الحكومة ضرورة وليس شرطاً، وإذا اعتبرت شرطاً فيمكن لها أن تغيب مثلاً طيلة فترة الانعقاد ولا تنعقد الجلسات. هل هذا هو جوهر الدستور الذي أراد المُشرّعون أن تُبنى الدولة على أساسه؟ هذه هرطقة واضحة، وسامح الله من سنّ هذه السنة ومن سكت عنها، الوزير عضو في المجلس رغم صفته في السلطة التنفيذية، وأعطي له حقّ التصويت ومع ذلك تُعطّل الجلسات بغيابه. النصاب قائم في حضور العدد المطلوب من الأعضاء فإذا تغيب الوزير والنصاب قائم فهذه مشكلته وليست مشكلة المجلس.
عندما ننادي ببعض التعديلات الدستورية كما نص دستورنا نفسه على وجوب ذلك، فلأن الكويت دفعت ثمناً غالياً سواء بالنظام الانتخابي الذي أفرز أحياناً أسوأ المخرجات المذهبية والمناطقية وكرّس النزعات الفردية على حساب البرامج الوطنية الجامعة، وعندما ننادي بنظام المجلسين فلأننا نريد وضع أسس لعلاقة سليمة بين السلطتين تحيل الإشكالات إلى دائرة أخرى تبحث قانونيّتها وتترك للمجلس المضي قدماً في التشريع والإنجاز، واليوم نحن أمام هرطقة حكومية استساغها البعض ونحتاج إلى تعديلات تفسيريّة كي يقف كل طرف عند حدوده ويدرك حقوقه وواجباته.
المفارقة أن مُؤيّدي ومُعارضي هذه الهرطقة الحكومية يرفضون حتى هذه اللحظة الذهاب إلى المحكمة الدستورية لحسم الجدل بالنسبة إلى الحدود المسموح بها في المادة 116 من الدستور بالنسبة إلى حضور الحكومة من عدمه.
وهنا أيضاً نتساءل مع الكثيرين عن سبب هذا الرفض وبقاء الأمور في دائرة السياسة والتأزيم.
دستور الكويت كان منارة أضاءت الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية عندما كان حاكماً للسلوكيات والعقليّات المُتعدّدة والبرامج والمشاريع الخاصة، هذه المنارة خفّ ضوؤُها تدريجياً وأظلمت عندما صار الدستور محكوماً من سلوكيّات وعقليّات وبرامج ومشاريع خاصة. هل مِنْ مُنقذ؟