(هِـبَـة) فتاةٌ ريفية، هي الآن في بدايات العَقد السادس من عمرها، وُلدت لأسرةٍ متوسطة الحال تمتلك أرضًا زراعية وتمتهن الفلاحة، بالإضافةِ إلى وظيفةٍ بسيطة تُدِرُّ على الأبِ دخلًا شهريًّا ثابتًا.
ولـ (هـبـة) ستةُ إخوةٍ وأخوات، هي الثالثةُ في الترتيب بين الجميع، لم يكن الأبُ حريصًا على تعليم البنات، لذا فإنها لا تجيد القراءةَ والكتابة، ولا حتى كتابة اسمِها الذي يَحرِصُ عددٌ ممن لا يعرفون القراءةَ والكتابة على أن يتعلموا رَسْمَه!!
لم تدخلْ (هـبـة) المدرسة، ولم تعرف الكراسةَ والقلم، لكنها دخلت معتركَ الحياةِ مبكرًا، فعمِلت في فلاحة الأرض، وعرَفت (شَلْيَة اللبن) و(الفأس)، ليس لها نعومة أظفار لنقول إنها تعودت كذا منذ نعومة أظفارها!!
شبَّت (هـبـة) وكثُر خُطّابُها؛ إذ كانت جميلةَ الملامح، شبَّهَها الشباب وقتئذٍ بالفنانة (عايدة رياض)، وعلى غير حُلمها في الزواج _ ودون غصْبٍ عليها أيضًا _ تزوجت من (نجّار) وعاشت حياةً أقلَّ عناءً وأكثرَ هناءً من حياتها في بيت أبيها، وبعد سنواتٍ من هذه الحياة _ تخللها سفرُ الزوج إلى السعودية وغيابُه سنوات تفعل بالمرأة الأفاعيل !! _ أدارت لها الدنيا ظهرَها، فمرِض الزوج، ولم يعد يقوى على العمل، وكانت قد أنجبت منه ثلاثَ بنات، وجاء وقتُ زواج الأولى!!
لم تعلم (هـبـة) كيف لها أن تُجهز بنتها؟! الجهاز يُكلف كثيرًا، والناس في القرية ينظر كلٌّ منهم إلى الآخر!! نعم لقد عادت مرة أخرى إلى الحياة يتعاركان، وبدأت تنزل إلى السوق تبيع وتشتري، ولكن هيهات للجنيهات أن تجهز البنات!!
لم تنسَ (هـبـة) أن حياة (الأرض) علّمتها الثقةَ في الله، فقد كانت تبذر البذور، وتتساءل: كيف يمكن أن تتحول هذه الحباتُ الصغيرة إلى محصولٍ يملأ (أچوِلةً) كثيرة؟! لكنَّ الأبَ كان يُجيبُ الصغيرة: منذ الآباء والأجداد ونحن نفعل ذلك، ويقول جدُّكِ لي: (اِزرع الزَّرْعَة، واعْتِمِد على الله)، وما خذَلنا اللهُ يومًا يا بُنيتي، سبحانه وتعالى، دومًا عند حُسن ظن الساعين المتوكّلين.
قالت (هـبـة): كنتُ إذا حلَّ ظلامُ الليل، أصعد فوق سطح المنزل، أُناجي ربي، وأُحدثه أيضًا بصوت مرتفع، أقول له ما أريده لجهاز ابنتي، ألستَ _ سبحانك _ الربَّ القويَّ القادر، وأنا العبدُ الضعيفُ العاجز؟! ألستَ _ سبحانك _ الذي يعلم المستورَ في الصدور، بل في السماوات والأرض؟! ألستَ _ سبحانك _ الخالقَ الذي تكفّلَ برِزْقِ خلقِه؟! مُذ كنتُ صغيرةً وأنا أرى قُدرتَكَ في إنبات الزرع، وعظَمَتَكَ في سَوْق الرزق إلى طائرٍ عاجز في عُشٍّ فوق شجرةٍ على رأس الأرض التي يزرعها أبي!! يا رب، أنا لا أجيد الكلام ولا أحفظ أدعية، لكنّ حديثي إليك من قلبي، وما أذكره أن أمي كانت ترددُ دائمًا قولَك: ” وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ۚ … ” وتقول لنا: ( يا أولاد، لا يَحْمِلُ هَمَّ العَيْش مَنْ كَانَ وَالِدُهُ غَنِيًّا، فَكَيْفَ يَحْمِلُهُ مَنْ رَبُّهُ الغَنِيّ، وَفَوْقَ ذَلِكَ ذُو رَحْمَة؟!
قالت (هـبـة): هل ستُصدقني إذا قلتُ لك إنني ما طلبتُ من الله شيئًا إلا وتَحَقّق؟!