رفعت الجمال في ذكرى ميلاده.. رحلة صعود بطل الجاسوسية المصري وهذا ما فعله معه السادات وحسني مبارك

السلايدر, ثقافة , Comments Disabled

ولد رفعت علي سليمان الجمال في مدينة دمياط في الأوَّل من يوليو 1927م، لأب “علي سليمان الجمّال” وكان يعمل تاجر فحم بالجملة، وأم “رتيبة علي أبو عوض”، من أسرة راقية، تتحدَّث الإنجليزية والفرنسية، اللتين تعلمتهما في إحدى المدارس الخاصة.

لرفعت الجمال أو «رأفت الهجان» كما قدمت في المسلسل التليفزيوني أخ غير شقيق يدعي “سامي”، و له أخ شقيق هو “لبيب” وأخته”نزيهة”، وتولي “سامي” شئون الأسرة كلها، بعد وفاة الأب عام 1936م، والذي كان مدرساً خصوصياً للغة الإنجليزية، لأخوي الملكة “فريدة”، مما يعني أنه كان يتمتَّع بمكانة محترمة للغاية
نشأ رفعت وترعرع في مصر الجديدة تحت رعاية شقيقه “سامي”، الذي نقل الأسرة كلها إلى القاهرة بعد وفاة الوالد، والتحق رفعت هناك بمدرسة للتجارة المتوسِّطة، وهو في الرابعة عشرة من عمره بناءً على ضغط الأسرة، التي رأت أن طبيعته غير المسؤولة، لن تساعده على النجاح في التعليم الجامعى.

وفي مدرسته التجارية المتوسِّطة، انبهر رفعت بالبريطانيين، الذين كانوا يقاومون الجيوش النازية باستماتة، مما دفعه إلى التحدُّث بالإنجليزية، بلكنة بريطانية، كما تعلَّق كثيراً بأستاذه الباريسي، الذي علَّمه أن يتحدَّث الفرنسية بلكنة الفرنسيين، حتى أجاد اللغتين، وبرع في التحدُّث بهما
وفي تلك الفترة أيضاً، كان للسينما سحر كبير، في نفوس الشباب، في كافة أنحاء العالم، مما جذب انتباه رفعت إلى الحد الذي جعله يحلم بالعمل في السينما ذات يوم، حتى أنه، وأثناء رحلة مدرسية إلى ستوديوهات السينما، تسلَّل إلى حجرة الفنان “بشارة واكيم”، وراح يقلِّد أدواره، حتى ضبطه الممثل الكبير متلبساً، وراق له ما يفعله، فسأله عن اسمه وأسرته، ثم نصحه بالاهتمام بدارسته أوَّلاً، والعودة بعد الانتهاء منها، للبحث عن دور في عالم السينما. وفي ذلك اليوم قرَّر رفعت أن يكمل دراسته، ليصبح ممثلاً.
وفي بدايات عام 1943م، تزوَّجت شقيقته نزيهة من الملازم أوَّل “أحمد شفيق”، وانتقلت الأم إلى دكرنس، واستعد سامي للزواج من إبنة “محرم فهيم” رئيس نقابة المحامين – آنذاك – وأصبح من الضروري أن ينتقل رفعت مع شقيقه لبيب، الذى أصبح محاسباً في بنك باركليز، إلى شقة أخرى، استأجرها لهما سامي بالقرب من ميدان لاظوغلي.

 

التقى رفعت بالممثل بشارة واكيم مرة أخرى، في عام 1945م، فتذكَّره الرجل، ومنحه دوراً صغيراً في أحد أفلامه، لتتغيِّر بعدها حياته تماماً؛ فمع الزهو الذى شعر به، مع عرض الفيلم، على الرغم من صغر دوره، بدأ زملاء الدراسة يعاملونه كنجم سينمائي، وأحاطوه باهتمامهم، وأسئلتهم، مما ضاعف من إحساسه بالثقة، وساعده على إنهاء دراسته، في صيف 1946م، ليعمل مرة أخرى، في أفلام الفنان بشارة واكيم، ويلتقي بأوَّل حب في حياته “بيتي”.
وكانت “بيتي” راقصة شابة مراهقة وتكبره بعام واحد، وبعد فترة انتقل رفعت للعيش مع بيتي مما أثار غضب شقيقه لبيب، وتسبَّب له في مشكلات عائلية عديدة، جعلته يتخلَّى فى النهاية عن “بيتي”، وعن العمل فى السينما.

 

رحلاته خارج مصر وعودته مرة أخري

تقدَّم رفعت بطلب لشغل وظيفة لدى شركة بترول أجنبية، على ساحل البحر الأحمر، ويفوز بها بجدارة؛ بسبب إجادته للفرنسية والإنجليزية بطلاقة. وبالفعل نجح رفعت
فى عمله إلى حد كبير، وبالذات لأنه يعمل في رأس غارب، على مسافة تقرب من مائتي كيلو متر عن القاهرة، التي فر من مشاكله العديدة بها، ورفض بإصرار العودة إليها، عندما تم نقله إلى الفرع الرئيسي بها، كنوع من الترقية.
إلا أن رفعت رفض هذه الترقية، ورفض الوظيفة كلها، وتحيَّن فرصة لقائه برجل أعمال سكندري، ربطته به علاقة وثيقة أثناء عمله، ليطلب منه العمل لديه، ولينتقل بعدها بالفعل إلى الإسكندرية وارتبط رفعت بهذا الرجل ارتباطاً وثيقاً، وشعر في منزله بدفء الأسرة، وخفق قلبه هناك بحب “هدى” ابنة رجل الأعمال، الذي لم يعترض على نمو هذه العلاقة، بعد أن اعتبر أن رفعت بمثابة ابنه، الذي لم ينجبه أبداً.
وكان من الممكن أن ينمو هذا الحب وينتهي بزواج واستقرار ولكن في أثناء قيام رفعت بمهمة لفرع الشركة في القاهرة، قام مدير الفرع في القاهرة بعملية إحتيال خبيثة، انتهت باتهام رفعت بالاختلاس والسرقة. وعلى الرغم من أن رجل الأعمال السكندري كان يدرك أن رفعت قد سقط في فخ محكم، إلا أنه اضطر لفصله من وظيفته، تجنباً لإجراء أية تحقيقات رسمية، في نفس الوقت الذي أوصى فيه بتعيينه كمساعد ضابط حسابات، على متن سفينة الشحن “حورس”.
وأثناء عمله على السفينة، وتوقفها فى ليفربول البريطانية، التقى رفعت بــ “جودي موريس”، التى ذكَّرته بحبيبته السابقة “بيتي”، وإرتبطت به جودي كثيرا فظل رفعت بعض الوقت معها ثم استعاد عمله على سفينة الشحن “حورس” عند عودتها إلى مدينة ليفربول، وعاد إلى مصر في مارس 1950، إلا أنه لم يلبث أن عمل على متن سفينة شحن فرنسية، سافر معها إلى مرسيليا، ثم تركها وانتقل إلى باريس حيث أجاد اللغة الفرنسية إجادة تامة، وكان يرغب في استمرار إقامته في باريس إلى الأبد، لولا أنه واجه خطر الطرد من البلاد، لأنه لم يكن يحمل تأشيرة إقامة رسمية.
ومرة أخرى، وبتأشيرة زيارة قصيرة، سافر رفعت إلى بريطانيا بحجة استشارة الطبيب، الذي أجرى له عملية الزائدة، واستقر ليعمل هناك في وكالة للسفريات، تحمل اسم “سلتيك تورز”
وفي هذه المرة أيضاً، ومع النجاح الذي حققه في عمله، كان من الممكن أن يستقر “رفعت” في “لندن”، وأن يحصل على إقامة رسمية بها، بل وأن يصبح من كبار خبراء السياحة فيها، لولا أنه، وأثناء قيامه بعقد صفقة لحساب الشركة في “نيويورك”، تلقَّى عرضاً من صاحب شركة أمريكية، بدا له مناسباً للغاية، فقبله على الفور، ودون تفكير، وقرَّر الإقامة في الولايات المتحدة الأمريكية لبعض الوقت، دون تأشيرة عمل رسمية، أو بطاقة ضمان اجتماعي خضراء.
ومنذ اتخذ قراره هذا، اضطربت حياة رفعت تماماً، فبدأت تطارده إدارة الهجرة وصاحب العمل تخلّى عنه، وتم وضع اسمه فى القائمة السوداء في “أمريكا”، مما اضطره للهرب إلى “كندا”، ومنها إلى فرانكفورت بألمانيا، التي حصل على تأشيرة ترانزيت بها، باعتبارها مجرَّد محطة، للوصول إلى النمسا.
ولكن عبثه أيضاً صنع له مشكلة ضخمة في فرانكفورت حيث فقد نقوده وجواز سفره، وفي تلك الفترة كان الكثيرون من النازيين السابقين، يسعون للفرار من ألمانيا، ويشترون في سبيل هذا جوازات سفر أجنبية، وبسبب ذلك اتهمه القنصل المصري هناك بأنه قد باع جواز سفره، ورفض أن يمنحه وثيقة سفر بدلاً منه، ثم لم تلبث الشرطة الألمانية أن ألقت القبض عليه، وتم سجنه لبعض الوقت، قبل أن يرحل قسراً، على متن أوَّل طائرة، عائداً إلى البلد الذي جاهد للابتعاد عنه
مع عودة رفعت إلى مصر بدون وظيفة، أو جواز سفر، وقد سبقه تقرير عما حدث له في فرانكفورت، وشكوك حول ما فعله بجواز سفره، بدت الصورة أمامه قاتمة إلى حد محبط، مما دفعه إلى حالة مؤسفة من اليأس والإحباط، لم تنته إلا مع ظهور فرصة جديدة، للعمل في شركة قناة السويس، تتناسب مع إتقانه للغات.
ولكن الفرصة الجديدة كانت تحتاج إلى وثائق، وأوراق، وهوية. وهنا، بدأ رفعت يقتحم العالم السفلي، وتعرَّف على مزوِّر بارع، منحه جواز سفر باسم علي مصطفى، يحوي صورته، بدلاً من صورة صاحبه الأصلي.. وبهذا الاسم الجديد، عمل رفعت في شركة قناة السويس، وبدا له وكأن حالة الاستقرار قد بدأت.
ولكن في عام 1952 قامت ثورة يوليو وشعر البريطانيون بالقلق، بشأن المرحلة القادمة، وأدركوا أن المصريين يتعاطفون مع النظام الجديد، فشرعوا في مراجعة أوراقهم، ووثائق هوياتهم، مما استشعر معه رفعت الخطر، فقرَّر ترك العمل، في شركة قناة السويس.
وحصل مرة أخري من نفس المزوِّر على جواز سفر جديد، لصحفي سويسري، يُدعى تشارلز دينون. والمدهش أن رفعت قد قضى بعض الوقت، في أحد الفنادق الكبرى، منتحلاً شخصية دينون، دون أن ينكشف أمره أو يُدرك مخلوق واحد، ممن يتعامل معهم يومياً، أنه ليس صحفياً، بل وليس حتى سويسرياً، بل مجرَّد شاب مصري، يحمل شيكات سياحية، قيمتها اثنا عشر ألف دولار أمريكي، هى نتاج عمله في شركة سلتيك تورز البريطانية، مما يثبت مدى براعته، وقدرته المدهشة على إقناع وخداع كل من حوله، وتمكُّنه المدهش من اللغات ولكناتها أيضاً.
وبسبب بعض المتغيرات السياسية، في عام 1953م، بدأت عملية مراجعة لأوراق الأجانب في مصر، مما اضطر رفعت إلى إنهاء إقامته في ذلك الفندق الدولي، وقرَّر أن يغيِّر هويته مرة أخرى، وحصل بالفعل على جواز سفر جديد، باسم البريطانى دانيال كالدويل. ثم اتجه رفعت نحو حدود ليبيا، وقد وقر في نفسه أنه لم يعد أمامه سوى أن يغادر مصر كلها.
وسار كل شيء على ما يرام، حتى بلغ نقطة الحدود نفسها، وقدَّم للضابط البريطاني عندها جواز سفره البريطاني، وهو يتحدَّث معه بلكنة بريطانية صرفة. ولكن الأمور لم تكن تسير لصالحه هذه المرة. ففي تلك الفترة كان الكثيرون من الجنود البريطانيين يفرون من وحداتهم في الإسكندرية ويحاولون عبور الحدود إلى ليبيا، كما كان العشرات من اليهود يسعون لتهريب أموالهم، عبر الحدود نفسها، مما جعل الضابط البريطاني يطالبه بإفراغ كل ما تحويه جيوبه أمامه، فلم يتردَّد رفعت لحظة واحدة، وبدأ يفرغ جيوبه أمام البريطاني، الذي التقط الشيكات السياحية، وفحصها في اهتمام بالغ، قبل أن يسأله عما يعنيه كون الشيكات محرَّرة لاسم رفعت الجمَّال في حين أن جواز السفر يحمل اسم دانيال كالدويل.
وهنا، ارتكب رفعت أكبر حماقة في حياته، عندما قال: إنه سيوقَّع تلك الشيكات باسم رفعت الجمَّال، مما اعتبره البريطاني بادرة شك، فألقى القبض عليه، وأعاده إلى القاهرة مع تقرير يشير إلى أنه لا يبدو مصرياً، أو حتى بريطانياً، وأنه على الأرجح دافيد أرنسون آخر..
“دافيد أرنسون كان ضابط يهودي، وعمل كمستشارً للقائد التركي جمال باشا في دمشق يوماً ما، وكان ضمن شبكة تجسُّس يهودية، انتشر أفرادها في الإمبراطورية العثمانية”.
واتهمت سلطات التحقيق في مصر رفعت بأنه يهودي، يحمل اسم دافيد أرنسون، وجواز سفر باسم دانيال كالدويل، وشيكات سياحية باسم رفعت الجمَّال، وعندما تحدَّث في التحقيقات باللغة العربية أثبت التهمة على نفسه، مما جعلهم يرسلونه إلى القاهرة، وإلى مصر الجديدة بالتحديد؛ لأنها الجهة الوحيدة، التي عثروا فيها على اسم رفعت الجمَّال.بداية تجنيده لدي المخابرات المصرية

وفي تلك الفترة كان تنظيم الظباط الاحرار بقيادة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر في بدايته حيث واكب ذلك دخول اليهود الي الاراضي العربية سنة 1948 وقيام الحرب بين العرب ودولة اسرائيل المزعومة . وكان البوليس السياسي في ذلك الوقت نوعاً من المخابرات.
وهنا احس بعض قادة الجيش بضرورة السعي وراء امتلاك اعين داخل اسرائيل وبدأ السعي لايجاد تلك الشخصية التي سوف تمثل هذا الدور العظيم ومن هنا بدا احد ضباط الجيش المصري في وضع بعض الشروط والتي من الواجب توفرها في تلك الشخصية واستمر سعية اكثر من عامين متواصلين محاولا ايجاد تلك الشخصية ففشل في ذلك. إلي ان جاء وقت كان يجلس ويتحدث مع بعض أصدقائه الضباط فسمع احدهم يتحدث عن شخص ليس لة مثيل في اساليب التنكر والتخفي وصلت به الي انه كان ينتحل اربع شخصيات في وقت واحد لخدمة مصالحة الشخصية في النصب والتحايل علي الاجانب المقيمين في مصر آن ذاك ومنهم اليونانيين والارمان والايطاليين وحتي بعض الحارات التي كانت تحوي اليهود وهنا اشتعل زمام فكر هذا الضابط وطلب علي الفور لقاء تلك الشخصية وتحاور مع رفعت الجمال لمدة طويلة ولكن بدون ادني فائدة تذكر حيث راوغة كثيرا وارهق فكره بالشكل الذي جعل هذا الضابط يوقن تمام بأنه وجد غايته وأنه وجد ما كان يبحث عنة منذ اكثر من عامين.

بعد ذلك أعيد استجواب رفعت في قسم “مصر الجديدة”، وحار الكل في شأنه، وافترض بعض الجنود، والضباط، وحتى المساجين، أنه بالفعل يهودي مصري، وفجأة، زاره ذلك رجل من البوليس السياسي أخبره بأن اسمه “حسن حلمي”، وكان ذلك أهم وأخطر نقطة تحوّل، في مسار حياته كلها.
ظل “حسن حلمي” يتحدث مع رفعت ويخبره أنه قد أثار حيرة الرسميين إزاء الصور التي ظهرت عليها حتى الآن. وأنه من الصعب تحديد شخصيته فقد يكون إنجليزياً أو يهودياً أو مصرياً ثم اتهمه بأن مصر لا تعنيه من كثير أو قليل، واستطاع ببضع كلمات عن أعداء مصر أن يستفز رفعت إلي أقصي الحدود وانفجر بالقول ليعترف أمام الضابط بأنه مصري.

بداياته كجاسوس

بدأ رفعت يحكي للضابط حسن كل شيء عنه منذ البداية وكيف قابل كثيرين من اليهود في ستوديوهات السينما ونجح في جعل اليهود يقبلونه كيهودي. وكيف تمثلت سلوكهم وعاداتهم من منطلق الاهتمام بأن يصبح ممثلاً. وحكي له عن الفترة التي قضاها في إنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، ثم أخيراً في مصر.
وبعدها أخبره حسن أنه الشخص الذي يبحث عنه ويمكن أن يستفيد منه استفادة حقيقية. وأخبره أن هناك رؤوس أموال ضخمة يجري تهريبها. وأن كثيرين من الأجانب وخاصة اليهود هم الذين يتحايلون لتهريب رؤوس الأموال إلى خارج البلاد. يمكنهم تحويل مبالغ بسيطة فقط بشكل قانوني، غير أنهم نظموا فرقاً تخطط وتنظم لإخراج مبالغ ضخمة من مصر. واليهود هم الأكثر نشاطاً في هذا المجال.
وأضاف إن إسرائيل تأسست منذ خمس سنوات مضت، وهناك كميات ضخمة من الأموال تتجه إليها. ونحن ببساطة لا نستطيع تعقب حيلهم، ومن ثم نحن نريد أن نغرس بينهم شخصاً ما، يكتسب ثقتهم ويطمئنون إليه وبذا يكتشف حيلهم في تهريب أموالهم إلى خارج البلاد، كما يكشف عمن وراء ذلك كله. ومعرفة كيف تعمل قنوات النقل التي يستخدمونها وكل شيء آخر له أهمية. وأخبره أنه الشخص المثالي لهذا العمل. الشخص الذي يمكن زرعه وسطهم ولابد أن يكون يهودياً. وأضاف أنهم سيتولون تدريبه وإيجاد قصة جيدة الإحكام لتكون غطاء له ثم يضعونه وسط المجتمع اليهودي في الإسكندرية.
وحينما سأله رفعت عما سيعود عليه من ذلك أضاف الضابط حسن أنه سيتم محو ماضي رفعت الجمَّال تماماً، ويجري إسقاط جميع الإجراءات القضائية الأولية لإقامة الدعاوي ضده بسبب جوازات السفر المزورة، والبيانات الشخصية عن علي مصطفى، وشارلز دينون، ودانييل كالدويل، وأي أسماء أخرى سبق له أن استخدمها، كما سيتم إسقاط أي اتهامات أخرى ضدك. وسوف تستعيد قيمة شيكاته السياحية، وتكتب بالاسم الذي يتخذه لنفسه ويعيش به كيهودي.

تدريبه وميلاد “جاك بيتون “

وافق رفعت علي التعاون مع الضابط وبدأت فترة تدريب مكثف له حيث شرح له أهداف الثورة وفروع علم الاقتصاد، وتعلم سر نجاح الشركات متعددة القوميات، وأساليب إخفاء الحقائق بالنسبة لمستحقات الضرائب، ووسائل تهريب الأموال، وتعلم عادات اليهود وسلوكياتهم. وتلقي دروساً مكثفة في اللغة العبرية كما تعلم تاريخ اليهود في مصر وأصول ديانتهم.
وعرف رأفت كيف يميز بين اليهود الإشكانز والسفارد والشازيد، وحفظ عن ظهر قلب الشعائر اليهودية وعطلاتهم الدينية. وتدرب أيضاً على كيفية البقاء على قيد الحياة معتمداً على الطبيعة في حالة إذا ما اضطرته الظروف إلى الاختفاء فترة من الزمن. وتدربت بعد هذا على جميع عادات الشرطة السرية للعمل بنجاح متخفياً. وأخيراً بدأ في تقمص شخصيته الجديدة.

وأصبح منذ ذلك التاريخ جاك بيتون المولود في 23 أغسطس عام 1919 في المنصورة، من أب فرنسي وأم إيطالية. وأن أسرته تعيش في فرنسا بعد رحيلها عن مصر، وهي أسرة كانت لها مكانتها وميسورة الحال. وديانته هي يهودي إشكنازي. وتسلم وثائق تحمل اسمه الجديد والتواريخ الجديدة.

وهكذا انتهى رفعت الجمَّال رسمياً، ليولد جاك بيتون، الذي انتقل للعيش في الإسكندرية، ليقيم في حي يكثر به اليهود، ويحصل على وظيفة محترمة، في إحدى شركات التأمين. وبدأت ثقته في نفسه تزداد، وبدأ يتعايش كفرد من الطائفة اليهودية، التي قدمه إليها زميله في الحجز ليفي سلامة، والذي قضي معه بعض الوقت، عندما تم إلقاء القبض عليه عند الحدود الليبية.

وأثناء وجوده في الإسكندرية إنضم رفعت إلى الوحدة اليهودية (131)، التي أنشأها الكولونيل اليهودي “إفراهام دار” لحساب المخابرات الحربية الإسرائيلية، والتي شرع بعض أفرادها في القيام بعمليات تخريبية، ضد بعض المنشآت الأمريكية والأجنبية، على نحو يجعلها تبدو كما لو أنها من صنع بعض المنظمات التحتية المصرية، فيما عرف بعدها باسم فضيحة “لافون”، نسبة إلى “إسحق لافون”، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك.
وفي الوحدة (131)، كان “رفعت زميلاً لعدد من الأسماء، التي أصبحت فيما بعد شديدة الأهمية والخطورة، في عالم المخابرات والجاسوسية، مثل “مارسيل نينو”، و”ماكس بينيت”، و”إيلي كوهين”، ذلك الجاسوس الذي كاد يحتلّ منصباً شديد الحساسية والخطورة، بعد هذا بعدة سنوات، في سوريا.

وكان “حسن حلمي” ، ومن بعده “علي غالي” – وهو من تولَّى أمر رفعت، في مرحلة تالية – كانا يتابعان نشاط الوحدة (131) طوال الوقت، وأن معلومات رفعت التي كان ينتزعها، من قلب الوحدة، كانت سبباً أساسياً في إحباط العملية كلها، وإلقاء القبض على كل المشتركين فيها.

التجسس علي المجتمع اليهودي بالاسكندرية

تم إلقاء القبض على “رفعت” و”إيلي كوهين”، كأفراد في الوحدة (131)، ثم أطلق سراحهما فيما بعد، لعدم وجود ما يدينهما، فاختفى بعدها إيلي في حين بقي رفعت ليواصل الحياة لبعض الوقت، باسم جاك بيتون، الذي لم يتطرَّق إليه الشك حتماً، بدليل أن الإسرائيليين قد اتهموا عضواً آخر، من الوحدة (131) بكشف أسرارها، وهو “بول فرانك”، الذي حوكم بالفصل فور عودته إلى إسرائيل وصدر ضده الحكم بالسجن لاثني عشر عاماً.
وحتى ذلك الحين، كانت مهمة رفعت تقتصر على التجسُّس على مجتمع اليهود في الإسكندرية، ولكن عقب نجاح عملية الوحدة (131) تم استدعاؤه إلى القاهرة، ليلتقي بضابط حالته الجديد “علي غالي”، الذي واجهه لأوَّل مرة بأنه قد نجح تماماً في مهمته، وأن الخطة ستتطوَّر، لتتم الاستفادة به أكثر خارج الحدود، خاصة وأن سمعته، كفرد سابق في الوحدة (131) ستخدع الوكالات اليهودية، وستدفعها للتعامل معه كبطل.

بدأت جولة تدريب مكثف لرفعت فدرس تاريخ اليهود الأوروبيين والصهيونية وموجات الهجرة إلى فلسطين. وتعلم كل شيء عن الأحزاب السياسية في إسرائيل والنقابات والهستدروت أو اتحاد العمال، والاقتصاد والجغرافيا والطوبوغرافيا وتركيب إسرائيل.

وأصبح رأفت خبيراً بأبرز شخصيات إسرائيل في السياسة والجيش والاقتصاد. وأعقب هذا تدريب على القتال في حالات الاشتباك المتلاحم والكر والفر والتصوير بآلات تصوير دقيقة جداً، وتحميض الأفلام وحل شفرات رسائل أجهزة الاستخبارات والكتابة بالحبر السري، ودراسة سريعة عن تشغيل الراديو، وفروع وأنماط أجهزة المخابرات والرتب والشارات العسكرية. وكذلك الأسلحة الصغيرة وصناعة القنابل والقنابل الموقوتة. وانصب اهتمام كبير على تعلم الديانة الموسوية واللغة العبرية. واعتاد أن يسمع كل يوم ولمدة ساعات إلى راديو إسرائيل. بل وعمد إلى تعميق لهجتي المصرية في نطق العبرية لأنه نهاية الأمر مولود في مصر. بعد التدريب تحددت له مهنة حيث تقرر أن يكون وكيل مكتب سفريات حيث إن هذا
سيسمح له بالدخول إلى إسرائيل والخروج منها بسهولة، وتقرر أن يؤدي اللعبة
لأطول مدة ممكنة. فلم يكن لمهمته حد زمني، وكان له الخيار بأن يترك الأمر كله
إذا سارت الأمور في طريق خطر. وقيل له أنه يستطيع بعد ذلك العودة إلى مصر وأستعادة شخصيته الحقيقية. وتسلم رفعت مبلغ 3000 دولار أمريكي ليبدأ عمله وحياته في إسرائيل. وفي يونيو 1956 استقل سفينة متجهة إلى نابولي

.
وصل رفعت إلى نابولي حيث التقطته الوكالة اليهودية هناك، وبذلت جهدها لإقناعه بالسفر إلى إسرائيل “أرض الميعاد”، كما كانت تقول دعاياتهم بمنتهى الإلحاح أيامها. ولم يبد رفعت أية لهفة على السفر إلى إسرائيل، إلا أنه لم يمانع بشدة في الوقت نفسه، وإنما جعلهم يعتقدون أنهم قد نجحوا في إقناعه، وتركهم يدفعونه إلى ظهر سفينة حملته إلى “إسرائيل”.

الحياة في إسرائيل

عند وصول رفعت إلي إسرائيل استقبله فيها رجل مخابرات يُدعى “سام شوب”، واستجوبه بعض الوقت، ثم منحه تأشيرة إقامة، وجواز سفر إسرائيلي فيما بعد، مما يؤكِّد أن عملية المخابرات المصرية قد نجحت بالفعل.
بدأ “رفعت” حياته في إسرائيل بإنشائه لمكتب سفريات عام 1956 باسم “سي تورز”، في 2 شارع “برينر” في تل أبيب، وهكذا وجد من الناحية العملية تعاوناً تجارياً سرياً بين المخابرات المصرية التي مولت جزءا من تكلفة إقامة الشركة والشاباك التي ساهمت أيضا في تمويل الشركة.

وبدأت صداقته مع “موشي دايان” ومحاولات “سام شوب” التقرُّب إليه ودفعه الفاتنة “راكيل إبشتين” في طريقه، ومحاولاته هو لاكتساب ثقة “دايان” و”شوب”، و”عزرا وايزمان”.
ومع اقترابه من مواقع الأحداث، علم “رفعت” بأمر العدوان الثلاثي قبل وقوعه، وعرف الكثير من تفاصيله، وسافر إلى روما وميلانو بالفعل، بعد ترتيبات دقيقة ليلتقي برؤسائه ويخبرهم بما لديه من معلومات، ولكن أحداً لم يصدّق، أو يقتنع بأهمية وخطورة تلك المعلومات، التي أتى بها رفعت من قلب إسرائيل ووقع العدوان الثلاثي علي مصر.
وفي عام 1957م، فوجئ رفعت بزيارة من “إيلي كوهين”، زميله السابق في الوحدة (131)، الذي سعى إليه، واستعاد صداقته معه، قبل أن يبدأ مهمته، التي سافر من أجلها إلى أمريكا الجنوبية للاندماج بمجتمع المهاجرين السوريين تمهيداً لزرعه في سوريا فيما بعد، والتي ساهم رفعت نفسه في كشف أمرها، عندما أبلغ المخابرات المصرية، أن صورة “كامل أمين ثابت، التي نشرتها الصحف المصرية والسورية، إنما هي لزميله السابق، الإسرائيلي “إيلي حوفي كوهين”.
إختار رفعت مكتبه السياحي لإقامة الجسر الجوي؛ لنقل يهود بيروت إلى إسرائيل، مما يؤكِّد
ثقة السلطات الإسرائيلية البالغة فيه، ووثق صداقاته وعلاقاته بقادة إسرائيل أمثال “ديان”، و”وايزمان” و”شواب”، ونظراً لصلة “ديان” الوثيقة بـ”بن جوريون”، فقد استطاع أن يكسب ثقة “بن جوريون” أيضاً، وأصبح عضواً في مجموعة الشباب المحيطين به، إذ كان يحب
أن يحيط به الشباب ويستمع لآرائهم وأفكارهم. أما “جولدا مائير” فكانت تتميَّز بأنها امرأة عطوف، وأبدت وداً شديداً نحو رفعت.
لم تحمل الفترة من 1959م، وحتى 1963م متغيرات قوية تستحق الإشارة إليها إلا حين أبلغ رفعت رئيسه “علي غالي” أثناء لقائه في “ميلانو” بإعتزام إسرائيل إجراء تجارب نووية، واختبار بعض الأسلحة التكنولوجية الحديثة.

زواجه وانتقاله إلي المانيا

طوال فترة عمله، في قلب إسرائيل، لحساب المخابرات المصرية، لم يتقدّم “رفعت الجمّال”
بمطلب واحد للمسؤولين المصريين. حتى كان مطلبه في يونيو 1963 بأن يعود إلى “مصر”، ويدفن إلى الأبد شخصية “جاك بيتون” حدث هذا قبل لقائه الأوَّل بزوجته فيما بعد “فلتراود”. وكانت رغبته هذه تعكس حالة الإجهاد التي وصل إليها، ورغبته الحقيقية في استعادة رفعت الجمَّال بهويته، وجنسيته وديانته أيضاً.
ولكن العودة لم تكن بالبساطة التي توقَّعها “رفعت”؛ إذ لم يكن من السهل أن يختفي “جاك بيتون” هكذا فجأة، من قلب “إسرائيل”، ليظهر “رفعت الجمَّال” مرة أخرى في “القاهرة”؛ فهذا كفيل بكشف كل ما فعله طوال حياته. وربما ستكشف أيضا شبكات التجسُّس التي تركها خلفه في إسرائيل، وبالنسبة لعالم المخابرات تعتبر هذه كارثة بكل المقاييس.
لذا كان عليه أن يحتفظ بشخصية “جاك بيتون” لبعض الوقت، وإن كان باستطاعته أن يغادر “إسرائيل”، ويرحل إلى بلد ثالث، بحجة العمل أو الارتباط، حتى يفقد الموساد اهتمامه به، بعد فترة من الوقت، مما يسمح له بالعودة إلي مصر.
التقي رفعت بزوجته “فالترود” في أكتوبر 1963م، وهي إمرأة ألمانية مطلقة ولديها طفلة اسمها “أندريا” وعمرها أربع سنوات. ووقع كل منهما في حب الآخر، وتزوجها سريعا. وعرضت عليه فالترود أن تتحول للديانة اليهودية عند زواجهما لكنه رفض.
حملت زوجته وأصر رفعت على ألا يولد ابنه في “إسرائيل”، كما أصر على أن تسافر زوجته لتنجبه في ألمانيا، حتى لا يحمل إلى الأبد الجنسية الإسرائيلية. وعندما لاحظ دهشتها من إصراره هذا، فسّر رفضه بان اسرائيل دولة حرب وأن حصول الطفل على جواز سفر اسرائيلي سيعرضه للمشكلات وأنه يخاف عليها من الاضطهاد. كما رفض رفعت أن يكون ابنه يهوديا وأصر على تركه بدون دين حتى يكبر ويقرر لنفسه. وظل ابنه “دانيال” بدون جنسية حتى حصل على الجنسية الألمانية في عام 1973 أي عندما بلغ التاسعة من عمره.
ورويداً رويداً، بدأ رفعت يتحلَّل من أعماله والتزاماته في إسرائيل، ويقوي روابطه
وأعماله في ألمانيا، فبدأ في دراسة كل ما يتعلَّق بالنفط، الذي قرَّر أن يجعل من تجارته مصدر رزقه الأساسي، خاصة وأنه قد تقدَّم بطلب للحصول على الجنسية الألمانية، التي ستتيح له السفر بيسر أكثر، ودون تعقيدات أمنية عديدة إلى مصر أيضا في أي وقت يشاء، كرجل أعمال ألماني، وتاجر نفط عالمي. وبالفعل انتقل رفعت للإقامة والاستقرار في المانيا
لم تنقطع اتصالات رفعت بالمسؤولين الإسرائيليين، واستطاع رفعت أن يعرف بمخطط إسرائيل للهجوم على مصر في يونيو1967م، وبالفعل أبلغ المسؤولين في “مصر” بهذا، إلا أن أحداً لم يأخذ معلوماته مأخذ الجد، نظراً لوجود معلومات أخرى تشير إلى أن الضربة ستنصب على سوريا وحدها ووقعت نكسة 1967.
على الرغم من حالة الإحباط وخيبة الأمل، التي أصابت رفعت بسبب هذا، إلا أنه واصل ارتباطه بالمخابرات المصرية، وظلّ يرسل إليها كل ما يقع تحت يديه من معلومات،
من خلال صداقته مع رجل المخابرات الإسرائيلي “سام شوب”، حتى توافرت لديه
فجأة بعض المعلومات بالغة الخطورة، والتي أرسلها فوراً إلى مصر، وصدقها المصريون هذه المرة، وكان لها تأثير واضح، في حرب 1973م.
وبعد الحرب والانتصار عاد رفعت يطلب العودة إلى مصر، ولكن المخابرات المصرية أخبرته أنه لا يستطيع العودة مع أسرته، إذ يستحيل أن تتم حماية الأسرة كلها طوال الوقت، من أية محاولات انتقامية إسرائيلية، إذا ما انكشف أمره. فكان عليه أن يظل إلي الأبد بعيداً عن وطنه، وأن يحمل حتى آخر العمر جنسية جاك بيتون اليهودي الإسرائيلي السابق، ورجل الأعمال الألماني الذي نجح في إقامة مشروع نفطي كبير في مصر، ليعود أخيراً إلى مصر التي فعل من أجلها كل ما فعله.في زيارته للأقصر بعد عودته إلي مصرالعودة إلي الوطن مصر
بعد أن أتم رفعت الجمال عمليته الجاسوسية حصل على امتياز التنقيب عن البترول المصري، في عام 1977 ونجح في تأسيس شركة باسم “آجيبتكو”، وأعطى الرئيس الراحل أنور السادات تعليماته لوزير البترول بأن يهتم بهذا “الرجل” العائد في شخصية جاك بيتون، دون أن يفصح عن شخصيته. وشدد علي أهمية مساعدته وتقديم كل العون له، فلم تجد وزارة النفط سوي “بئر مليحة” المهجور لتقدمه له بعد أن تركته شركة فيليبس، لعدم جدواه.
ورفضت هيئة البترول السماح له بنقل البترول من البئر في الصحراء الغربية إلى داخل البلاد بالتنكات. وأصرت علي نقله بأنابيب النفط ، وهو ما لم يتمكن رفعت الجمال من توفيره ماديا، فلجأ مرة أخرى إلي السادات الذي كرر تعليماته بمساعدته وتقديم كل العون له. لكن أحدًا لم يهتم به، فساءت حالة شركته، وتصرفت فيها زوجته “فالترود بيتون” بعد أن مات في عام 1982 حيث باعتها لشركة دنسون الكندية.
لرفعت الجمال ابن واحد من زوجته الألمانية إلا أنه لا يحمل الجنسية المصرية، حيث أن المخابرات المصرية وفي إطار الإعداد للعملية قد قامت بإزالة كل الأوراق التي قد تثبت وجود رفعت الجمال من كل الأجهزة الحكومية بحث صار رفعت الجمال رسميا لا وجود له، وبالتالي لا يستطيع ابنه الحصول على جواز السفر المصري الأمر الذي أدى بزوجته وابنه أن يقدموا التماسا للرئيس السابق محمد حسني مبارك لاستغلال صلاحياته في إعطائه الجنسية، إلا أن طلبهما قوبل بالرفض لعدم وجود ما يثبت بنوته لرجل مصري.زواجه وانتقاله إلي المانيا.


بحث

ADS

تابعنا

ADS