حقق يحيى السنوار إنجازاً عسكرياً بارعاً كانت نتائجه مزلزلة لدولة إسرائيل. هذا النجاح يضعه امام فرصة ذهبية، إن انتهزها سيذكره التاريخ كأحد أبرز القيادات الفلسطينية وإن فوّتها سيُذكر كمن كان مسؤولاً عن خراب ودمار غزة.
تم في شهر اكتوبر/تشرين الأول 2011 توقيع صفقة بين الحكومة الإسرائيلية وحركة حماس أُطلق في إطارها سراح 1027 أسيرا فلسطينيا من السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط من أسر حماس. الشخص الذي قيل انه كان أحد مهندسي تلك الصفقة هو يحيى السنوار الذي كان في ذلك الحين أسيرا بنفسه. كل من التقى بالسنوار وصفه بأنه شخص بارد الاعصاب وعقلاني وقاسي جداً. في عام 1989 تمت إدانة السنوار بقتل 4 فلسطينيين اشتبه بأنهم خانوا شعبهم وتم سجنه في إسرائيل.
وخلال سنوات تواجده في السجون الإسرائيلية تعلم السنوار اللغة العبرية وتابع جيداً المجتمع الإسرائيلي، وأدرك أنه فقط إذا تعرف على الثقافة الإسرائيلية، سيتمكن من هزيمة أعدائه الصهاينة. في تلك السنوات اكتسب السنوار نفوذاً سياسياً حيث ولد من جديد كزعيم بارز قام باتخاذ أهم القرارات الخاصة بسجناء حركة حماس في السجن. بنى السنوار زعامته على أسس شخصيته الكاريزمية الهادئة، وعلى رؤيته الدينية المتشددة، والتي اتصف بها منذ كونه شاباً ومساعداً وفياً للشيخ أحمد ياسين، وعلى قدرته على إجراء مفاوضات قاسية باسم الأسرى مع السلطات الإسرائيلية. سبب آخر لنفوذه هو الرعب انه كمن لا يتردد في تصفية المتعاونين في داخل السجون أيضا وتحت أنظار السلطات الإسرائيلية.
بعد اختطاف جلعاد شاليط تحسنت مكانة السنوار أكثر، كون شقيقه محمد هو الذي قاد عملية الاختطاف، وبالتالي كان من الواضح للجميع بأنه لن يكون فقط أحد اول السجناء الذين سيتم إطلاق سراحهم ضمن هذه الصفقة بل أيضا هو الذي سيقرر مَن مِن بين سجناء حماس سيُخلى سبيله معه.
فور إطلاق سراحه عاد إلى غزة بالرغم من خطورة ذلك، وذلك لقناعته بأن الصراع الفلسطيني يحتم عليه البقاء في القطاع، حيث أصبح قائداً ميدانياً هاماً، ليتحول بعد ذلك الى قائد حركة حماس في غزة، محيطاً نفسه بأشخاص أوفياء. امتنع السنوار من عقد لقاءات مع الدبلوماسيين والزعماء الذين كانوا يفضلون الكلمات على الأفعال. كما أعاد تأكيده في أكثر من مناسبة على هدفه الرئيسي – التزامه بإطلاق سراح باقي الأسرى المتواجدين في السجون الإسرائيلية، وأن الطريقة لتحقيق ذلك – عرف ذلك كل من استمع إليه – هي من خلال خطف إسرائيليين لاستخدامهم كأوراق مساومة.
تحقق ذلك يوم السبت 7 اكتوبر 2023. كان السنوار، الشخص الذي تابع جيداً المجتمع الإسرائيلي ورصد تفككه من الداخل، العقل المدبر وراء الهجوم الفتاك الذي بادرت به الحركة، والذي يعتقد الكثيرون بأنه سيكون جزءاً من مواد التدريس في الكليات العسكرية في كافة أنحاء العالم، حيث تكبدت إسرائيل جرائه 1400 قتيلا فيما تم خطف 250 آخرين الى القطاع، بعيداً عن أعين أجهزة المخابرات الاسرائيلية. وهكذا أوقع السنوار الإسرائيليين في كارثة تفوق حسب رأيهم حرب اكتوبر.
إلا انه بالذات بسبب هذا الإنجاز الفريد من نوعه الذي حققته حركة حماس، وقع السنوار في الفخ. العديد من هؤلاء المخطوفين، كما تبين فيما بعد، هم أطفال ومسنون ونساء أو مواطنو دول أجنبية. هذه الحقيقة بالإضافة الى ان العديد من عمليات الاختطاف تم تصويرها من قبل عناصر حركة حماس ونشرها فيما بعد في ارجاء العالم، مما أدى إلى توجيه انتقادات شعبية لاذعة إلى حركة حماس. فجأة وجدت حماس نفسها وهي تُقارن بتنظيم داعش الإرهابي.
على مر السنين تبين ان السنوار كشخص ماكر يتقن تضليل وخداع أعدائه. ومنذ إطلاق سراحه، أدلى بتصريحات جعلت الإسرائيليين يؤمنون بأنه لا مصلحة له في خوض مواجهة عسكرية معهم، حيث قال في مقابلة اجرتها معه قناة الجزيرة في شهر أيار 2018: “أبناء شعبنا الفلسطيني، فصائل المقاومة وحماس، سيستمرون في طريق المقاومة الشعبية، وسيحرصون على ان يظل هذا الحراك حراكاً سلمياً وأننا لا نريد ان تنجر الامور الى مواجهة عسكرية مسلحة”. وأيضا تقرير نشرته صحيفة “فايناشينال تايمز” البريطانية قبل أسبوع تقريباً بوصف الفشل الإسرائيلي في رصد تحركات السنوار.
خلافا لزعماء عرب آخرين، مثل معمر القذافي، يعدّ السنوار شخصا عقلانياً منطقياً يعرف كيفية انتهاز الفرص. وهذه المنطقية الباردة هي التي تجعل الكثيرين يقدّرون حسه السليم وقدرته على التفاوض. من الجدير بالذكر أن السنوار هو الذي أعاد قوة حماس إلى داخل القطاع نظراً لقدرته على التفاوض مع إسرائيل حول مختلف المواضيع بما في ذلك ما يتعلق بتحويل الأموال القطرية إلى داخل القطاع.
وفي الوقت الحالي يقف السنوار امام مفترق طرق يمكّنه من تحقيق إنجاز عظيم لشعبه الفلسطيني. بما انه يحتجز العديد من المختطفين، بمن فيهم المسنون والنساء والأطفال، تؤكد بعض العناصر المقربة من حماس انه في حال استثمر السنوار الاوراق المتوفرة لديه بالشكل الصحيح، فقد ينجح في إطلاق سراح أسرى من السجون الإسرائيلية مقابلهم، ليتحول ليس فقط الى قائد استراتيجي عسكري تمكن من توجيه ضربة عسكرية قاسية للإسرائيليين بل الى زعيم سياسي بإمكانه استثمار انجازاته العسكرية للحصول على مكاسب سياسية حقيقية. إلا انه قد يفوّت هذه الفرصة بعكس ذلك.
يُعرَف السنوار بأنه شخص يتريث ولا يستعجل في اتخاذ القرارات (رأينا ذلك في التداول حول موضوع الإسرائيليين الاثنين وجثتي جنود آخرين بحوزة حركة حماس منذ حوالي عشر سنوات). في حالات معينة قد يكون ذلك لمصلحته، ولكن عندما تُشن حرب شرسة بكل المقاييس وتعيش غزة تحت وطأة النيران الإسرائيلية، قد يفوّت السنوار هذه الفرصة.
حتى اندلاع الحرب، أظهرت استطلاعات الرأي في قطاع غزة ان سكان القطاع معجبون ويهابون السنوار إلا اننا الآن بدأنا نسمع صرخة غضب وانتقاد حركة حماس ويحيى السنوار على الوضع المشؤوم في ظل ما تشهده غزة من دمار وخراب. ربما بعد أسابيع من الآن او حتى بالأحرى بعد أيام، قد يصبح الشيء غير قابل للتصحيح
الوقت لا يلعب لمصلحة السنوار بالضبط كما لم يلعب الوقت لمصلحة زعماء عرب آخرين مثل صدام حسين ومعمر القذافي الذين كانوا يعتقدون ان الوقت يلعب لمصلحتهم فتريثوا في اتخاذ القرارات التي كان من شأنها إنقاذهم وهكذا ختموا مصيرهم بأيديهم.