ورد الى دار الإفتاء سؤال نصة :”ما حكم الصلاة بالقفازين لشدة البرد؟ فأنا أحيانًا في فصل الشتاء أرتدي في يدي القفاز أو ما يعرف بـ(الجوانتي)، ويشق عليَّ نزعه بسبب شدة البرد؛ فهل يجوز لي أن أصلي به أو يجب عليَّ نزعه؟
حكم الصلاة بالقفازين لشدة البرد
قال فضيلة الدكتور شوقي علام -مفتي الجمهورية:”يجوز شرعًا أن يصلي الفرد حال كونه مرتديًا القفاز أو ما يعرف بالجوانتي، ولا يجب عليه نزعُه ما دام يشق عليه ذلك بسبب شدة البرد، ولا حرج عليه حينئذٍ ولا كراهة.
أضاف “من رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين أنه يسَّر لهم طريق العبادة، ورفع عنهم كل حرجٍ فيه؛ فما كلفهم إلا بما هو في طاقتهم ووسعهم؛ قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، وقال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 28]، وقال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]، قال الإمام البغوي في “معالم التنزيل” (1/ 601، ط. دار إحياء التراث العربي): [﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ﴾: يُسَهِلَ عليكم أحكام الشرع، وقد سَهَّلَ؛ كما قال جَلَّ ذِكْرُهُ: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ﴾ [الأعراف: 157]، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ السَّهْلَةِ»] اهـ.
تابع “إذا شق على المصلي أن يباشر الأرض بكفَّيه وهما مكشوفتان عند سجوده -كما في مسألتنا-؛ فله أن يسجد عليهما مع وجود حائلٍ بينهما وبين الأرض؛ كأن يلبس القفاز الساتر لكفَّيه ونحوه، ولا يمنع ذلك من صحة الصلاة؛ قياسًا على ما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يتقي -عند سجوده- حرَّ الأرض وبرودتها بفضول ثوبه، وكذلك ما جاء عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا يصلون وأيديهم داخل أكمامهم دون أن يخرجوها؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما “أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ يَتَّقِي بِفُضُولِهِ حَرَّ الْأَرْضِ وَبَرْدَهَا” أخرجه الإمامان: أحمد في “مسنده”، وابن أبي شيبة في “مصنفه”،وقد بوَّب الإمام البخاري في “صحيحه” بابًا أسماه: (باب السجود على الثوب في شدة الحر)، وقال: قال الحسن: “كَانَ الْقَوْمُ يَسْجُدُونَ عَلَى الْعِمَامَةِ وَالْقُلُنْسُوَةِ، وَيَدَاهُ فِي كُمِّهِ”، وأخرج فيه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: “كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَيَضَعُ أَحَدُنَا طَرَفَ الثَّوْبِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ فِي مَكَانِ السُّجُودِ”.
السجود على الثياب اتقاء الحر والبرد
ذكر”وبوَّب الإمام ابن خزيمة في “صحيحه” بابًا أسماه: (باب إباحة السجود على الثياب اتقاء الحر والبرد)، وبوَّب الإمام ابن ماجه في “سننه” أيضًا بابًا أسماه: (باب السجود على الثياب في الحر والبرد)، وأخرج فيها عن ثابت بن الصامت رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم “صَلَّى فِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ وَعَلَيْهِ كِسَاءٌ مُتَلَفِّفٌ بِهِ، يَضَعُ يَدَيْهِ عَلَيْهِ، يَقِيهِ بَرْدَ الْحَصَى”، وكذلك بوَّب الإمام الترمذي في “سننه” أيضًا بابًا أسماه: (باب ما ذكر من الرخصة في السجود على الثوب في الحر والبرد)، وعن إبراهيم النخعي أنه قال: “كَانُوا يُصَلُّونَ فِي مَسَاتِقِهِمْ وَبَرَانِسِهِمْ وَطَيَالِسِهِمْ؛ مَا يُخْرِجُونَ أَيْدِيَهُمْ مِنْهَا”، قلنا له: ما الْمِسْتَقَةُ؟ قال: “هِيَ جُبَّةٌ يَعْمَلُهَا أَهْلُ الشَّامِ، وَلَهَا كُمَّانِ طَوِيلَانِ، وَلَبِنُهَا عَلَى الصَّدْرِ، يَلْبَسُونَهَا، وَيَعْقِدُونَ كُمَّيْهَا إِذَا لَبِسُوهَا” أخرجه الإمامان: عبد الرزاق في “مصنفه” واللفظ له، والبيهقي في “السنن الكبرى”، و”البرانس”: جمع بُرْنُسُ بِضَم النُّون وكل ثوب رَأسه ملتزق بِهِ فَهُوَ برنس، وقيل: البرنس: قلنسوة طويلة، وكان النساك يلبسونها في صدر الإسلام، وتبرنس الرجل: لبس البرنس؛ كما في “العين” للإمام الفراهيدي (7/ 343، ط. دار الهلال)، و”الصحاح” للإمام الجوهري (3/ 908، ط دار العلم للملايين).
قال “و”الطيالسة”: جمع طيلسان، وهو كساءٌ غليظ، مهلهل، مربع، أخضر. وقيل: هو من وبر وصوف، وحكي عن الأصمعي أنه قال: الطيلسان ليس بعربي، قال: وأصله فارسي إنما هو تالشان فأعرب؛ كما في “لسان العرب” للعلامة جمال الدين ابن منظور (6/ 125، ط. دار صادر)، و”تاج العروس” للعلامة المرتضى الزبيدي (4/ 428، ط. دار الهداية) ، فأفاد تقييدُ السجود على الثياب بـ”شدة الحر والبرد” كما وردت بذلك الآثارُ وبوَّب المحدِّثون: أن النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم والصحابةَ رضوان الله عنهم لم يكونوا يفعلون ذلك إلا عند الحاجة أو الضرورة لذلك، ففائدةُ القيد: تعليلُ إباحة السجود على الثوب وإدخال اليد في الكم بشدة الحرِّ أو البرد لا الإباحة مطلقًا، وإلا لما كان للتقييد فائدة؛ وقد “تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي: أَنَّ الْحُكْمَ إِذَا وَرَدَ عَلَى مُقَيَّدٍ؛ كَانَ مَحَطَّ الْفَائِدَةِ الْقُيُودُ؛ ففرق بين قولك: جاءني زيد، وجاءني زيدٌ راكبًا، وجاءني زيدٌ راكبًا أمس؛ فإنَّ المقصود في الأول: الإخبار بالمجيء فقط، وفي الثاني: إخباره بمجيئه راكبًا، وفي الثالث: بالركوب والْمُضِيِّ كِلَيْهِمَا”؛ كما قال العلامة الكشميري في “فيض الباري” (2/ 34، ط. دار الكتب العلمية) ، وأما الآثار المروية على إطلاقها دون تقييدٍ بشدةِ حرٍّ أو بردٍ: فينبغي حملها على الآثار المقيدة بإباحة ذلك عند شدة الحرِّ أو البرد؛ لما تقرر في قواعد الأصول مِن أنه إذا ورد النص مطلقًا في موضعٍ، ثم ورد في موضعٍ آخرَ مقيَّدًا مع اتحاد الحكم والسبب؛ فإنه ينبغي حمل المطلق منهما على المقيَّد؛ كما في “اللمع في أصول الفقه” للإمام أبي إسحاق الشيرازي (ص: 43، ط. دار الكتب العلمية)، وقد اتحد الحكمُ في الآثار الواردة؛ وهو إباحة السجود مع حائلٍ بين اليدين والأرض، واتحد كذلك السببُ؛ وهو شدة الحر أو البرد، ولهذا قيَّد أصحابُ السنن الأبوابَ التي ذكروا فيها تلك الآثارَ بقيد شدة الحر أو البرد، فإن لم يكونوا قد حملوا المطلق على المقيد؛ لما كان للتخصيص بذكر القيد فائدة.