شهر رمضان، ورد إلى دار الإفتاء سؤال يقول هل يفسد الصوم إذا استخدم الصائم غسولًا للفم أو وضع إصبعه على لسانه أو في فمه فشَعَر بطعم الغسول؟
بيان الحكمة من مشروعية الصيام
ومن جانبها قالت دار الإفتاء إنه من المقرر شرعًا أن الصوم قد شُرِعَ لمعانٍ جليلة، وحكم عظيمة، منها تقوى الله عزَّ وجلَّ، وكسر الشهوة، والإحساس بالفقراء والمساكين، وتزكية النفس، وتطهيرها، وتنقيتها من الأخلاط الرديئة، والأخلاق الرذيلة.
قال الإمام الغزالي في “إحياء علوم الدِّين” (1/ 235، ط. دار المعرفة): [ومعلوم أن مقصود الصوم: الخواء، وكسر الهوى؛ لتَقْوَى النفس على التقوى… فروح الصوم وسرِّه تضعيف القوى التي هي وسائل الشيطان] اهـ.
بيان معنى الصيام
الصوم لغةً: مصدر صام يصوم صومًا وصيامًا، وهو مطلق الإمساك في اللغة، كما قال العلامة الفيومي في “المصباح المنير” (1/ 352، ط. المكتبة العلمية).
وشرعًا: الإمساك عن شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس مع النية. ينظر: “الاختيار” للعلامة ابن مودود الحنفي (1/ 125، ط. الحلبي)، و”الشرح الكبير” للشيخ الدردير المالكي (1/ 509، ط. دار الفكر)، و”مغني المحتاج” للعلامة الخطيب الشربيني الشافعي (2/ 140، ط. دار الكتب العلمية)، و”كشاف القناع” للعلامة البهوتي الحنبلي (2/ 355، ط. دار الكتب العلمية).
حكم استخدام غسول الفم للصائم وهل يعد ذلك من المفطرات؟
اتفق العلماء على أنَّ الأكل والشرب من أصول المُفَطِّرات؛ قال الإمام ابن حزم الأندلسي في “مراتب الإجماع” (ص: 39، ط. دار الكتب العلمية): [اتفقوا على أن الأكلَ -لما يغذي من الطعام مما يستأنف إدخاله في الفم- والشربَ والوطءَ حرام من حين طلوع الشمس إلى غروبها… واتفقوا على أن الأكل لغير ما يخرج من الأضراس أو لغير البرَد ولغير ما لا طعم له ولغير الريق، وأن الشرب والجماع في الفرج للمرأة، إذا كان ذلك نهارًا بعمد وهو ذاكر لصيامه: فإن صيامه ينتقض] اهـ.
ومجرد استعمال الغسول في الفم لا يصدق عليه أنه أكل أو شرب؛ لأنه عبارة عن إدارة للسائل في ظاهر الفم فلا يبطل به الصوم، ما دام لم يدخل إلى الحلق شيء؛ لأن المفسد للصيام هو دخول شيء للجوف من منفذ مفتوح، بشرط أن ينقِّيَ الفمَ بالماء جيدًا من آثار غسول الفم حتى لا تتسرب مادته إلى الحلق.
قال العلامة ملا خسرو الحنفي في “درر الحكام شرح غرر الأحكام” (1/ 203، إحياء الكتب العربية): [وأكثر مشايخنا رحمهم الله على أن العبرة للوصول حتى إذا علم أن الدواء اليابس وصل إلى جوفه فسد صومه، وإن علم أن الرطب لم يصل لا يفسد] اهـ.
وقال العلامة البابرتي الحنفي في “العناية شرح الهداية” (2/ 336، ط. دار الفكر): [(ومن ابتلع الحصاة أو الحديد أفطر؛ لوجود صورة الفطر)؛ بإيصال الشيء إلى باطنه] اهـ.
وقال العلامة الحَطَّاب المالكي في “مواهب الجليل” (2/ 431، ط. دار الفكر): [والإفطار بما يصل إلى الجوف أو المعدة من الفم] اهـ.
وجاء في مختصر خليل وشرحه للعلامة الخَرَشِي المالكي (2/ 249، ط. دار الفكر): [(ص) وإيصال متحلل أو غيره على المختار لمعدة بحقنة بمائع أو حلق (ش) أي: وصحته بترك إيصال متحلل، وهو كل ما ينماع من منفذ عال أو سافل غير ما بين الأسنان أو غير متحلل -كدرهم- من منفذٍ عالٍ كما يأتي على ما اختاره اللخمي، وقوله: (لمعدة) متعلق بقوله: (وإيصال)؛ أي: وإيصال متحلل أو غيره لمعدته] اهـ.
وقال العلَّامة زكريا الأنصاري الشافعي في “الغرر البهية في شرح البهجة الوردية” (2/ 213، ط. المكتبة الميمنية): [يبطل الصوم بالواصل إلى حلقه وإن لم يصل إلى معدته] اهـ.
وقال العلَّامة الخطيب الشربيني الشافعي في “الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع” (1/ 237، ط. دار الفكر): [(والذي يفطر به الصائم عشرة أشياء): الأول: (ما وصل) من عين وإن قلَّتْ كسمسمة (عمدًا) مختارًا عالمًا بالتحريم (إلى) مطلق (الجوف) من منفذ مفتوح، سواء أكان يحيل الغذاء أو الدواء أم لا، كباطن الحلق، والبطن، والأمعاء] اهـ.
وقال العلَّامة الرُّحَيْبَاني الحنبلي في “مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى” (2/ 191، ط. المكتبة الإسلامية): [(وكذا) يفسد صوم بـ(كل ما يصل لمسمى جوف)؛ كالدماغ والحلق والدبر، وباطن الفرج] اهـ.
وقال العلامة البُهُوتي الحنبلي في “شرح منتهى الإرادات” (1/ 481، ط. عالم الكتب): [(أو أدخل إلى جوفه شيئًا) من كل محل ينفذ إلى معدته (مطلقًا)؛ أي: سواء كان ينماع ويغذي أو لا؛ كحصاة، وقطعة حديد، ورصاص، ونحوهما، ولو طرف سكين، من فعله أو فعل غيره بإذنه: فسد صومه] اهـ.
بيان حكم ما دخل للفم أثناء الصيام ولم يتجاوزه
نصوص الفقهاء من المذاهب المختلفة قد تتابعت على تقرير أن الفم له حكم الظاهر، أي: أن ما دخل الفم ولم يتجاوزه لا يُفَطِّر، وأن الفطر يحصل بخصوص الداخل إلى الجوف من كلِّ عين أجنبية، دون ما لم يصل إليه.
قال الإمام الزيلعي الحنفي في “تبيين الحقائق” (1/ 324-325، ط. الأميرية): [الفم له حكم الظاهر، ألَا ترى أنه لا يفسد صومه بالمضمضة فيكون داخلًا من الخارج] اهـ.
وقال العلامة داماد أفندي الحنفي في “مجمع الأنهر” (1/ 246، ط. إحياء التراث العربي): [الفم له حكم الظاهر؛ ولهذا لا يفسد الصوم بالمضمضة] اهـ.
وقال الإمام أبو الطاهر التنوخي المالكي (ت: 536هـ) في “التنبيه على مبادئ التوجيه- قسم العبادات” (2/ 722، ط. دار ابن حزم): [الفم له حكم الظاهر في الصوم، وإذا ابتلع منه شيئًا صار كالمتناول من خارج] اهـ.
وقال العلامة أبو البركات ابن المُنَجَّى الحنبلي في “الممتع في شرح المقنع” (4/ 175، ط. مكتبة الأسدي): [الفم له حكم الظاهر لا حكم الباطن] اهـ
بيان أن العبادة إذا وقعت مستوفية الأركان والشروط فإنها صحيحة
إذا حصل الامتناع الشرعي عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وخلا الصوم عمَّا يفسده، فإنه يكون صحيحًا، فإنه من المقرر شرعًا أن العبادة إذا وقعت على الهيئة المطلوبة، ومستوفية للأركان والشروط: فإنها صحيحة ومجزئة.
قال العلامة الزَّرْكَشي في “تشنيف المسامع بجمع الجوامع” (1/ 179، ط. مكتبة قرطبة): [العبادة إن وقعت مستجمعة الأركان والشروط: كانت صحيحة، وإلا ففاسدة] اهـ.
حكم بقاء رائحة غسول الفم أو طعمه في الفم وأثر ذلك على الصيام
أما بقاء رائحة غسول الفم أو طعمه فإنه لا يُؤثِّر في صحة الصيام ما دامت المادة نفسها قد زالت؛ جاء في “المنهاج” وشرحه “تحفة المحتاج” لابن حجر الهيتمي (3/ 397-402 -مع حواشي العبادي والشرواني-): [(شرط) صحة (الصوم) من حيث الفعل: الإمساك (عن وصول العين إلى ما يسمى جوفًا)؛ لأن فاعل ذلك لا يسمى ممسكًا، بخلاف وصول الأثر؛ كالطعم، وكالريح بالشم] اهـ بتصرف.
ومما نسترشد به أيضًا في أن ذلك مما لا يؤثر على صحة الصوم أن فقهاء الحنفية قد نصوا على أن الصائم إذا وُجِد طعم الدواء في حلقه فصومه صحيح.
قال الإمام ابن مازه الحنفي في “المحيط البرهاني” (2/ 384، ط. دار الكتب العلمية): [أما إذا اكتحل، أو أقطر شيئًا مِن الدواء في عينه لا يفسد صومه عندنا، وإن وُجِد طعم ذلك في حلقه] اهـ.
وإن كان الأفضل أن يتم ذلك في غير ساعات الصيام؛ ليغلق المكلف باب الوسواس ما دام ليس مضطرًّا إلى هذا.
بناءً على ذلك: فإن مجرد استعمال الصائم غسول الفم أثناء الصيام لا يبطل به الصوم ما دام لم يدخل منه إلى الحلق شيء، وبقاء رائحة الغسول أو طعمه لا يُؤثِّر في صحة الصوم ما دامت المادة نفسها قد زالت، والأفضل أن يتم ذلك في غير ساعات الصيام إذا لم يكن المكلف مضطرًّا إليه.