تمتلئ شاشات التليفزيون في ذكرى نصر أكتوبر بأفلام صنعت لتخليد النصر التاريخي وأشهرها بالطبع “الرصاصة لا تزال في جيبي” -الذي إذا لم يعرض في هذا التوقيت فبالتأكيد فإن أكتوبر لم يأت بعد- بالإضافة إلى أفلام أخرى أشهرها الطريق إلى إيلات، العمر لحظة، أبناء الصمت، بدور، حكايات الغريب،وأخيرا فيلم “الممر ” الذي قوبل بحفاوة بالغة لجودة إتقانه.
بجانب الأفلام الحربية هناك أفلام أخرى تناولت حرب الجاسوسية بين تل أبيب والقاهرة ومنها الصعود إلى الهاوية وفخ الجواسيس وبئر الخيانة ومن أشهر جمله الحوارية “عاش خاين ومات كافر”، بالإضافة إلى أعمال درامية كثيرة أشهرها على الإطلاق رأفت الهجان ودموع في عيون وقحة، والسقوط في بئر سبع.
جاسوس الشمبانيا
إسرائيل أيضا صنعت أفلاما حربية وجاسوسية بعد أن منحت “الموساد” مؤخرا الضوء الأخضر للمخرج الإسرائيلي ناداف شيرمان لكي يصنع فيلما “غير خيالي” يعتمد على حقائق موثقة، عن أحد أشهر جواسيس الجهاز طوال تاريخه وهو الجاسوس الذي عرف بـ”جاسوس الشمبانيا”.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل سٌمح أيضا لضباط سابقين وحاليين في الموساد بالظهور في الفيلم، وتحدث بعضهم باسمه الحقيقي فيما استخدمت أسماء مستعارة للعملاء الذين لايزالون في الخدمة.
أما سر التسمية التي أطلقها الموساد على ذلك الجاسوس، أي “جاسوس الشمبانيا”، فيعود إلى أنه كان مولعا بوجه خاص، بالشمبانيا، وكان يستمتع كثيرا بالسهر، ويغشى المنتديات والأماكن الراقية، يتناول الشمبانيا ويفرط في تناولها، بل وكان أيضا يغدق على معارفه ويمنحهم صناديق من الشمبانيا على سبيل الهدايا، في استعراض لثرائه وذوقه الرفيع، وجذبا لهم لمعاونته في أهدافه الخفية.
بداية المهمة
“جاسوس الشمبانيا” اسمه الحقيقي هو زئيف جور آري. وهو يهودي (من جهة الأم) من أصل ألماني، هاجر إلى فلسطين مع أسرته عام 1933 مع صعود هتلر إلى السلطة، وخدم في صفوف الجيش البريطاني هناك ثم التحق بالجيش الإسرائيلي بعد قيام إسرائيل، ثم تلقى تدريبا خاصا في الموساد إلى أن جاء وقت الاستفادة من قدراته فأرسل عام 1960 إلى ألمانيا الغربية حيث طلب الحصول على الجنسية وحصل عليها بالفعل ثم وصل إلى مصر في العام التالي تحت اسم فولفجانج لوتز.
كانت إسرائيل تشعر بقلق شديد في تلك الفترة من مساهمة عدد من العلماء الألمان في تطوير برنامج مصري للصواريخ. وأرسلت عددا من عملائها منهم “لوتز” لتهديد هؤلاء العلماء واغتيال بعضهم إذا لزم الأمر لثنيهم عن العمل في مصر، بإرسال خطابات ملغومة إلى العلماء الألمان وما أشاعته من رعب بينهم دفع معظمهم للمغادرة.
غطاء محكم
ولكن لوتز تحديدا كان يؤدي مهمات أكبر، فقد تمكن بفضل الغطاء المحكم الذي كان يعمل تحته، من مصادقة عدد من كبار ضباط الجيش المصري، “وفقا للفيلم” منهم لواء في المخابرات العسكرية، مما مكنه من دخول وتصوير عدد من القواعد العسكرية وقدم خدمات جليلة لإسرائيل.
كان غطاء لوتز أنه أولا ألماني (كان أشقر وأزرق العينين ولم يتعرض للختان شأن اليهود)، وثانيا ما رواه بإقناع من أنه كان ضابطا سابقا في الجيش الألماني النازي ثم هاجر بعد الحرب إلى أستراليا وهناك جمع ثروة من تربية الخيول.
وقد افتتح ناديا لركوب الخيل في ضاحية المعادي الراقية في القاهرة، وأصبح يستورد كميات كبيرة من الشمبانيا الفرنسية ويقيم الحفلات ويغدق فيها على ضيوفه من المدنيين والعسكريين المقربين من السلطة.
ويتضمن الفيلم لقطات تسجيلية نادرة من محاكمة لوتز في القاهرة، ولقطات نادرة أيضا له داخل زنزانته في سجن ليمان طره، ثم لقطات حية له مع زوجته يوم إطلاق سراحه عام 1968.
الثعلب
وعن تفاصيل القبض على جاسوس الشمبانيا يروي رفعت جبريل الذي شغل منصب وكيل أول جهاز المخابرات العامة وشغل قبله منصب رئيس هيئة الأمن القومي والذي لقب بالثعلب لدوره في القبض على عدد من الجواسيس في عدة عمليات أشهرها ” فؤاد محرم” “فولجانج لوتز” “المقدم فاروق الفقي وهبة سليم” قال لأهمية مصر وأهمية الدور الذي كانت تقوم به، لم يقم الموساد بتجنيد أحد عناصره في هذه العملية، ولكن أرسل أحد ضباطه المتميزين.. وبالفعل نجح لفترة.. وقدم نفسه للمجتمع على أنه رجل ألمانى مليونير يهوى الخيول، وقام بتأجير فيلا «أسمهان» في شارع الهرم ومزرعة خاصة للخيول، وكان هناك أيضاً من ضمن أصدقائه المترددين عليه ضباط من سلاح الفرسان، لدرجة أنه عندما كان يسافر لإحدى رحلاته كان يضع خيوله في سيارات سلاح الفرسان وكان مطمئناً أن له أصدقاء من الضباط.. وبالتالى لن يكتشفه أحد.
فيلا أسمهان بالهرم
وأضاف أن فولجانج كان ألمانياً يهودياً.. ودخل مصر على أنه ألمانى مسيحى، وكان جاسوساً محترفاً منذ الحرب العالمية الثانية، وعندما استقر به المقام في فيلا أسمهان في الهرم.. وبمهارة يحسد عليها، استطاع النفاذ في مجتمع القاهرة، واشترك في نادى الجزيرة، واشترى الكثير من الخيول الأصيلة، ودخل في معاملات تجارية مع عدد من كبار رجال الدولة، وكل خميس كان يقيم حفلاً ساهراً وغنياً في فيلته.
وتابع الثعلب دخلنا الفيلا ومعى فريق من المتخصصين، كان الرجل خارج القاهرة، فتشنا في كل الأماكن بشكل بوليسى دقيق ولمدة ساعتين، ولم نجد أي دليل على أنه جاسوس وكنت في قمة الغيظ، لكن شيئاً ما دفعنى في اللحظة الأخيرة لدخول غرفة المكتب.. وفيها كان كل شىء منظماً وفى مكانه، وفجأة عثرت على شىء شكله غريب.. علبة متوسطة الحجم فوق المكتب الرئيسى بالغرفة.. وعندما فتحتها عثرت على عدد من قطع الصابون بداخلها.. وبحاستى السادسة أدركت أن في الأمر شيئاً مريباً، وقد يكون في هذه العلبة ضالتنا المنشودة، وجاء خبير المتفجرات ليجرى فحصاً بسيطاً وسريعاً، ليؤكد لى بالفعل أنها «متفجرات» لم نأخذ الصابون الموجود في العلبة بل أغلقناها ونظفت المكان تماماً، وخرجنا قبل أن يعود الرجل بدقائق معدودة.
بعد يومين.. حصلنا على إذن النيابة.. وألقينا القبض عليه وأتذكر أننا عندما دخلنا بيته في «الهرم» وعرف مقصدنا هددنا باللجوء إلى سفارته «الألمانية»، كما ذكرنا بمعارفه وأصدقائه من الوزراء والمحافظين.. وبهدوء طلبت منه أن يدخل معى إلى حجرة المكتب.. وببساطة مددت يدى إلى أعلى المكتب وفتحت العلبة وأخرجت الصابون.. وفى لحظات تغيرت ملامح الرجل تماماً.. وانهار وقال وبشكل مفاجئ لى ولجميع من حولى «سأعترف بكل شىء» وقام من تلقاء نفسه بإحضار اللاسلكى وباقى أدوات الاتصال بـ«الموساد» وكان أسهل جاسوس أستجوبه على الإطلاق.. والرجل كان ذكياً للغاية وعلم أننا نعرف كل شىء عنه ومن ثم فإن تعاونه معنا كان عاملاً مهماً في عدم إهانته أو تعرضه للبهدلة، والأمر الثانى، أن الرجل كان يعلم أنه مهم للغاية للموساد وأنه غير مصرى، أي أنه سيدخل في صفقة، آجلاً أم عاجلاً، لتبادل الأسرى، والأهم أنه لن يعدم.
وقضى «فولجانج» بالفعل عدة سنوات في السجن، إلى أن جاءت هزيمة 1967، والتى انتهت بأسر آلاف الضباط والجنود المصريين.. ومع نهاية الحرب طلبت إسرائيل، عبر الصليب الأحمر، استبدال الجاسوس «فولجانج» بـ3 آلاف أسير مصرى.
الملاك
فيلم «الملاك – The Angle» الذي عرضته، النتفليكس لأول مرة، وهو ممثل للرواية الإسرائيلية لدور «أشرف مروان» الاستخباراتي الغامض بالنسبة للجمهور العربي.
اندفع الفيلم بتصدير صورة مختزلة للغاية لشخصية جمال عبد الناصر، وجعل في سياق درامي غير مباشر وغير محبوك؛ سبب توجه زوج ابنته منى، أشرف مروان، إلى التعامل المتعجرف والأرعن لعبد الناصر مع آراء أشرف مروان، بالإضافة إلى الزج بفكرة «العمالة المزدوجة» في إحدى المحاضرات التي كان يحضرها مروان في جامعته بلندن، إذ عرض المحاضر في هذا المشهد بطولة العميل البريطاني المزدوج «غاربو»، الذي كون شبكة مخابراتية كبيرة، وسعى من أجل تحقيق السلام في خضم الحروب الدموية المتتالية في أوروبا، وحصل بالفعل على تكريمين، أحدهما ألماني والآخر بريطاني.
مثلت هذه الفكرة مع معاملة عبد الناصر له بطريقة سيئة، بل طلب عبد الناصر من ابنته مني الطلاق من مروان؛ وهو ما جعله يتواصل مع السفارة الإسرائيلية في لندن كردة فعل متوقعة لشاب طموح وذكي في عمر مروان حينها.
بل إن تجسس مسئول الشئون الخارجية لعبد الناصر، سامي شرف، على تفاصيل حياة مروان؛ كان أيضا عاملًا مرسخًا لبغض وكراهية مروان لأسلوب عبد الناصر ورجاله، وهو ما زاد، وفق الرواية الإسرائيلية، من ولادة فكرة العمالة المزدوجة في وجدان مروان.
لا يغفل الفيلم حاجة مروان للمال، نظرًا لتضييق وتحكم عبد الناصر في ذلك، وهي في سياق انتقاصي شديد من مروان نفسه، ومن رجل من المفترض أن يكون زوج بنت الرئيس، فضلًا عن كونه دبلوماسيًا ليس بالهين في البعثة الدبلوماسية المصرية في لندن!
السادات
وفي نقلة درامية غير محبوكة وسريعة؛ ينتقل الفيلم بمروان من مرحلة أشرف مروان المهمش في ظل حكم عبد الناصر، إلى أبرز رجالات السادات وأقرب الناس إليه في صناعة القرار كما سيصور الفيلم في أكثر من مشهد، ويتسلق مروان لهذه المكانة في النظام الساداتي من خلال إبلاغه السادات مباشرة عن فساد رجال عبد الناصر المقربين كسامي شرف وغيره.
وينطلق مروان في هذه الحقبة في تواصله مع الموساد، مع تصوير الصراع الداخلي بين جناحي الموساد؛ المدرسة العنيفة والمدرسة المرنة، إن جاز التعبير، حيث اختار رئيس الموساد العميل الإسرائيلي المرن ليتعامل مع هذا الصيد الثمين كما يصورونه، بينما بقي العميل العنيف رهن الإشارة إذا فشلت استراتيجية التعامل المرن مع مروان في الحصول على معلومات دقيقة وموثوق فيها.
لا يغفل مخرج الفيلم المرور على بشاعات السجون المصرية آنذاك، وبالتحديد سجن طرة، في مشهد عابر خلال تواصل عميل مخابرات مصرية مع سامي شرف في السجن، مبينًا مدى نفوذ شرف وبقاء بعض رجاله في نظام السادات، بل استمرار تلقي شرف وهو داخل الحبس الانفرادي لتطورات ومعلومات دقيقة عن أشرف مروان وتحركاته في لندن وروما.
الرواية الإسرائيلية، سواء في الفيلم، لاتزال تاركة الباب لمصر لتسليط الضوء على حقيقة عمالة مروان المزدوجة كونه أفاد مصر كما أفاد إسرائيل؛ لأنه، وفق الرواية الإسرائيلية، رجل ذو بعد رسالي إنساني ” ملاك” يريد تحقيق أقل قدر من الخسائر للطرفين، وهذا من مكامن محاولة الرواية الإسرائيلية التذاكي وتقليل مساحة الإحراج للجانب المصري.
وستبقى الرواية الإسرائيلية مساحة مثيرة للجدل والنقاش حتى تنطق الرواية المصرية بوجهة نظرها، أو تبقى متحفظة لدواعي الأمن القومي المصري.