العوامات والذهبيات التي تسكن فوق صفحة النيل هي أحد معالم القاهرة، بل من أهم معالمها، ففيها كانت تشكل الحكومات، وتوقع القرارات، عاشا فيها صفوة المجتمع المصري في القرن الماضي من باشوات وبكوات وفنانين وصحافيين ومثقفين، ولكن «دوام الحال من المحال»، والمجتمعات كل يوم بحال، متغيرات ورياح تغيير شاهدة على عصور تجيء وأخرى تزول، ولكنها في القلب والوجدان تدوم وتدوم، لأنها ذكريات زمن جميل مازال يتدفق في الشرايين، وأصبح جزءا من نسيج كل من أحبوه وعاشوا فيه ومعه، زمن الكبار الذين حملوا عصور شامخة وساروا بها. من مفردات وجماليات هذا الزمن ما يعرف بالعوامات أو الذهبيات، التي كان لها دور البطولة في ثلاثية الروائي العالمي المصري نجيب محفوظ، ووصف السهرات التي كان يقضيها السيد كمال عبدالجواد في العوامات.
بديعة مصابني
وخاصة عوامات الراقصات الشهيرة مثل بديعة مصابني، التي اشتهرت بالرقص بالشمعدان في فترة الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، وكان يجتمع في العوامات كبار الفنانين في الأربعينات من القرن الماضي، مثل تحية كاريوكا راقصة مصر الأولى أيامها، وسامية جمال، وأسمهان وفريد الأطرش ومحمد عبدالمطلب، وكبار الكتاب والمثقفين. ومن أشهر العوامات في تلك الحقبة في مصر عوامة منيرة المهدية في أوائل القرن الماضي، وهي العوامة رقم 165، وقالت في تصريحات لها قبل وفاتها: «لو فكر صحافي أن يسترق السمع إلى صالوني في تلك الفترة، لاستطاع معرفة أخبار مصر كلها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية».
شاهدة على العصر
ومن هذا المنطلق تعتبر العوامات التي كانت ترسو بصفة خاصة في منطقة الزمالك، ذلك الحي الأرستقراطي، وجاردن سيتي، حي النخبة والأسر الكريمة، وحي الدقي الراقي، من هذا المنطلق كانت العوامات العملاقة هذه شاهدة على عصر بأكمله بكل تفاصيله ومفرداته. ومن أشهر العوامات، تلك التي كتب عنها نجيب محفوظ في روايته «ثرثرة فوق النيل» إنعكاساً للواقع المصري في فترة الثلاثينات والأربعينات في بدايتها، وكأن العوامة في أدب محفوظ رمز لعصر بأكمله.
حكمت فهمي
والراقصات كن يعتبرن العوامات بيتهن الثاني الذي يؤدين فيه وصلاتهن الراقصة..ومن أشهر هؤلاء الراقصات ملكة العوامات حكمت فهمي
كانت حكمت فهمي تغني وترقص في نادي (كيت كات) في القاهرة لجنود القوات البريطانية.. وتعود لتنام في عوامتها على شاطيء النيل في إحدى مناطق الزمالك.. وبدأت نشاطها التجسسي بمدّ الجاسوس الألماني يوهان إبلر بالمعلومات التي تحصل عليها من الضباط الإنجليز ليرسلها بدوره إلى الجنرال روميل الذي كان يقاتل الإنجليز عند العلمين. وكانت الجاسوسة حكمت فهمي تتخير من كبار الضباط عدداً من الذين يميلون إلى الثرثرة بعد تجرع كؤوس الخمر وتدعوهم لتكملة السهرة عندها في العوامة.. وكان معظم الضباط الذين على صلة بالجاسوسة الراقصة على قناعة تامة بأن حكمت فهمي -التي أطلقوا عليها”جاسوسة روميل”- مخلصة بل متحمسة للجيش البريطاني الثامن في حربه ضد الألمانوفي عوامة جاسوسة روميل سقط الجاسوسان الألمانيان يوهان إبلر وهنريتش غيرد ساندستيت
فقد عاش هذان الجاسوسان في عوامة حكمت فهمي..ودأبا على السهر ليلا في الكيت كات والعودة مخمورين قرب الصباح إلى العوامة التي اتخذا منها محطة للإرسال يتصلان عن طريقها بقيادة المخابرات الألمانية.
وداخل هذه العوامة أيضا بدأ تعاون أنور السادات مع هذين الجاسوسين في إصلاح وتشغيل أجهزة الإرسال التي تصل عوامة حكمت فهمي بمركز المخابرات الألمانية في الصحراء الغربية. ويشير السادات في كتابه “صفحات مجهولة” وليونارد موزلي في “القط والفئران” وعبد المغني سعيد في “أسرار السياسة المصرية في ربع قرن”.. إلى تفاصيل غريبة عن الحياة التي كان يعيشها إبلر وساندستيت ويحاولان بها تقليد أساطير شهريار..مع اختلاف واضح هو أن وليمة الجاسوسين كل ليلة كانت من بنات الهوى
لكن وكر التجسس انكشف أمره بعد أن أبلغت غانية فرنسية تدعى إيفيت عن إبلر – وكان معروفا في مصر باسم “حسين جعفر”- الذي أعطاها ببذخ عشرين جنيهاً أسترلينياً أجرا عن ليلتها وتخلى عن حذره أمامها..فوشت به إلى أجهزة المخابرات. وكانت النتيجة أن ألقي القبض على إبلر وساندستيت وحكمت فهمي..والسادات وزميله حسن عزت اللذين طردا من الجيش في الثامن من أكتوبر تشرين أول عام ألف وتسعمئة واثنين وأربعين وجرى ترحيلهما إلى سجن الأجانب ثم إلى معتقل قرب مدينة المنيا.
أفلام العوامات
كما جرى تصوير العديد من الأفلام على ظهر العوامات..إذ تم تصوير فيلم “أيام وليالي” بطولة العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ على ظهر عوامة كان يمتلكها حسين باشا شكري. وأدى الفنان أحمد زكي مشهدا من فيلم “أيام السادات” للمخرج محمد خان على ظهر عوامة موجودة حاليا على طريق إمبابة- الكيت كات..وعلى ظهر العوامة رقم سبعة وأربعين صور الفنان الكوميدي محمد هنيدي مشهدا من فيلم “صعيدي في الجامعة الأمريكية” للمخرج سعيد حامد.. كما صور الفنان عادل إمام مشهدا من فيلم “السفارة في العمارة” إخراج عمرو عرفة على ظهر العوامة رقم اثنين وخمسين..وصورت المطربة غادة رجب أغنية عاطفية على ظهر العوامة نفسها
وفي “العوامة 70” قدم المخرج خيري بشارة بأسلوب يجمع بين التوثيق والصنعة السينمائية قصة مجتمع بأكمله..يعاني بطلاه أحمد زكي وتيسير فهمي مشكلات بالجملة وكأنهما يمثلان جيل السبعينيات الذي ظل يراوح مكانه لظروف أغلبها خارج إرادته.
ثلاثية نجيب محفوظ
وفي الجزء الثاني من ثلاثية نجيب محفوظ تطلب زنوبة من عشيقها السيد أحمد أن يجعلها تقيم في عوامة راسية على ضفاف النيل تحت كوبري الزمالك..في هذا الجزء نرى كيف دأب السيد أحمد على القيام برحلات متكررة إلى العوامة الخاصة للقاء معشوقته الشابة..وداخل عوامة رجب القاضي أحد أبطال “ثرثرة فوق النيل” ارتكبت كل الموبقات وغزا دخان الحشيش أجواء الغرف.. وامتزجت روائح العطورالنسائية بروائح أشجار الأكاسيا والجازورينا والكافور التي تمتد على طول الشاطيء..في هذه العوامة انكشف المستور وعمت حالة من الغيبوبة والانحلال والهروب من الواقع الذي كانت تعيشه مصر آنذاك.. صراع يجمع بين المرارة والإحباط والسخرية..شارك فيه عادل أدهم وعماد حمدي وأحمد رمزي وصلاح نظمي وسهير رمزي وميرفت أمين وماجدة الخطيب ونعمت مختار
ومشهد العوامات الراسية فوق ماء النيل مشهد يعكس جماليات زمن ولى، ولكنه في القلوب حي، وفي الذكريات يملأ فراغ أزمنة باهتة.
أنوار العوامات تغازل النيل في ليل القاهرة الساحر والمميز بخصوصية لا مثيل لها.
دار الزمن دورته، وخفتت أنوار العوامات، ربما إلى الأبد، بعد ان هجرها سكانها الأصليون في عصر مميز بالناس والمكان والأحداث، ولكنها راسية، ولكن بمفهوم مختلف، يسكنها أناس من طبقة دون المتوسطة، منها ينبعث صوت أغاني زمان التي بقت ولم تستطع هذه الطبقة ان تزيلها مثل أغنية «إمتى الزمان يسمح يا جميل، وأتمشى معاك على شط النيل»، وأخرى لعبد الوهاب «بلاش تبوسني في عينيه دي البوسة في العين تفرق ويمكن في يوم ترجع إليّ وحلم القلب يتحقق» .
شاعر النيل
وبالمناسبة فإن حافظ إبراهيم قد سمي باسم “شاعر النيل” لأنه ولد في عوامة على النيل حوالي عام ألف وثمانمئة واثنين وسبعين
نقل العوامات لإمبابة
تاريخ المشاهير من الأدباء والفنانين مع العوامات انتهى في منتصف ستينيات القرن العشرين بقرار من وزير الداخلية المصري سابقا زكريا محيي الدين..فقد كان البكباشي زكريا محيي الدين يمارس رياضة التجديف في النيل كل جمعة وكانت العوامات تضيق مجرى النيل فأصدر قراراً في عام ألف وتسعمئة وستة وستين بنقل جميع العوامات من الزمالك والعجوزة إلى منطقة إمبابة
وسرعان ما تقرر نقل خمس وستين عوامة من شاطئ العجوزة إلى إمبابة وإعدام سبع وثلاثين عوامة أخرى..ومع مرور الزمن لم يتبق من خمسمئة عوامة سوى ثلاث وعشرين.. فقط تسع عوامات منها مرخصة.
عوامة فريد الأطرش ونجيب الريحاني
الفرمان الوزاري لم ينل استحسان الأثرياء والباشوات الذين رفضوا الانتقال إلى المنطقة التي اعتبروها شعبية فاضطروا إلى بيع عواماتهم بمبالغ ضئيلة أو تركها لمصيرها القاتم ..مثل عوامة المطرب فريد الأطرش التي كانت تتألف من طابقين على الطراز العربي واعتبرت المكان المفضل له لمقابلة أصدقائه من الفنانين والفنانات..وعلى ظهرها لحن أجمل أغنياته خاصة أغنية “حبيب العمر”. وقد توقع البعض أن تتحول هذه العوامة إلى متحف لكن ورثته لم يهتموا بصيانتها والحفاظ عليها بعد وفاته..حتى أنهم امتنعوا عن تسديد الرسوم المطلوبة عليها لأجهزة الدولة فتحولت إلى كهف مهجور مما اضطر شرطة المسطحات المائية إلى سحبها من الماء نهائياً وتفكيكها وبيعها خردة عام ألف وتسعمئة واثنين وثمانين
وامتلك الفنان محمد الكحلاوي في أربعينيات القرن الماضي عوامة اعتاد أن يسهر فيها مع جمع من الفنانين والصحفيين والأصدقاء.. وفي بعض الأحيان كان ضيوفها من المغنين والراقصات. وكان ذلك قبل أن يصبح الكحلاوي “مداح النبي”. وفي عوامة الكحلاوي وسهراتها خرج مشروعا فيلميه “كابتن مصر” و”أحكام العرب”
وكانت العوامة رقم خمسة وسبعين ملكا للفنان نجيب الريحاني لكنها غرقت بعد أن رفض الورثة إصلاحها..أما العوامة رقم ستة وستين فكانت تملكها الفنانة منيرة المهدية..وقد اشتهرت هذه العوامة بأنها كانت مقصد كبار المسؤولين ورؤساء الحكومات في عهود مضت. وقد قالت في تصريحات لها قبل وفاتها: “لو فكر صحفي أن يسترق السمع إلى صالوني في تلك الفترة لاستطاع معرفة أخبار البلد ولكن أحداً لم يفكر يومها أن مجلس الوزراء ينعقد في عوامتي”
منيرة المهدية
وتقول منيرة المهدية في مذكراتها إن رئيس الوزراء آنذاك حسين رشدي باشا – الذي شكل أربع وزارات متعاقبة بدءا من الخامس من أبريل نيسان عام ألف وتسعمئة وأربعة عشر وانتهاء بتاريخ التاسع عشر من مايو أيار عام ألف وتسعمئة وتسعة عشر- كان يجتمع مع وزرائه في العوامة ويتخذون القرارات الخاصة بشؤون البلاد..”وكان يقول لي رشدي باشا “أنا لما بأحضر هنا بالي بيروق”..وقال لمنيرة المهدية “إنك تستطيعين الحصول على الاستقلال لمصر” بأغنية من أغنياتها..ويقال إنه على أنغام أغنية “يا حبيبي تعالى بالعجل” كان الوزراء والساسة يناقشون تطورات الوضع في مصر المحروسة.
وبلغ عشق منيرة المهدية لعوامتها أنها في عام ألف وتسعمئة وثلاثة وستين باعت فيلتها بمنطقة مصر الجديدة بمبلغ ستة آلاف جنيه وسيارتها وجاءت لتعيش في العوامة..لكنها تركت الماء وعادت إلى البر مرة أخرى بعد أن غرقت عوامة جيرانها.
الملك فاروق
وقضى الملك فاروق سهرات صاخبة مع عشرات الحسناوات على ظهر إحدى العوامات..بل إن إسماعيل صدقي رئيس الوزراء الداهية الذي أبطل دستور عام ألف وتسعمئة وثلاثة وعشرين كانت له حكاية وهو في سن الأربعين مع العوامات..ففي عام ألف وتسعمئة وخمسة عشر قدم صدقي ـ وكان وقتها وزيرا للأوقاف ـ استقالته نتيجة فضيحة أخلاقية..حيث وصلت إلى الشرطة بلاغات تفيد بأن العوامات على النيل وخاصة عوامة وزير الأوقاف يحدث بها ما يشين ..فاقتحم رجال الشرطة العوامة ليجدوه في وضع مريب مع فتاة شابة كانت ابنة أحد زملائه الوزراء والتي انتحرت بالسم بعد إطلاق سراحها من القسم..ووصل الموضوع إلى السلطان حسين الذي استدعى صدقي وعنفه ليستقيل الأخير نتيجة هذه الفضيحة.
الجهات الرسمية
عوامات النيل تتبع ثماني جهات مختلفة: إدارة الملاحة..الوحدة المحلية بالجيزة..إدارة حماية النيل..شرطة المسطحات المائية..وزارة الري..أملاك الدولة..الصرف الصحي..وزارة السياحة
وهكذا تفرق دمها بين القبائل
الغموض والسرية
العوامات التي كانت مسرح غناء شريفة فاضل وألحان فريد الأطرش ونكات نجيب الريحاني..طالتها الآن يد العشوائيات أو امتلكها خليجيون مثل سعيد فارس أمين مدينة جدة السابق لتصبح غامضة ومحاطة بالسرية والكتمان..في حين لجأ البعض إلى تأجيرها على طريقة البنسيون أو منحها لطالبي السهرات الخاصة بعيدا عن العيون الفضولية والمتطفلة.. لتبدأ في تلك الليالي حكايات أخرى عن السرقة والشذوذ والقتل
هنا فقط يتذكر الجميع – من رجال الشرطة إلى عامة الناس- أن العوامات مازالت تطفو على سطح نهر النيل وترسو بكل ما تحمله من أسرار وحكايات مذهلة تتحدى الزمن..والشائعات.