ورد إلى دار الإفتاء سؤال يقول ما حكم سنة الجمعة القبلية؟
حكم التنفل بعد صلاة الجمعة
وأجابت دار الإفتاء أن العلماء اتفقوا على مشروعية التنفل بعد صلاة الجمعة؛ على اختلاف بينهم في الأفضل؛ هل هو ركعتان أو أربع.
أنواع النفل قبل صلاة الجمعة
أما النفل قبل الجمعة؛ فهو إما أن يكون نفلًا مطلقًا، أو سنةً راتبة.
حكم النفل المطلق قبل صلاة الجمعة
فأما النفل المطلق: فلا خلاف في جوازه بين الفقهاء؛ فهو جائزٌ بل مستحبٌّ، ومن الأدلة عليه:
حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَتَطَهَّرَ بِمَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، ثُمَّ ادَّهَنَ أَوْ مَسَّ مِنْ طِيبٍ، ثُمَّ رَاحَ فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَصَلَّى مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ إِذَا خَرَجَ الإِمَامُ أَنْصَتَ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجُمُعَةِ الأُخْرَى» رواه البخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنِ اغْتَسَلَ، ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ، فَصَلَّى مَا قُدِّرَ لَهُ، ثُمَّ أَنْصَتَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَعَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، وَفَضْلُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» رواه مسلم.
آراء الفقهاء في وجود سنة راتبة قبل صلاة الجمعة
أما السنة القبلية الراتبة للجمعة فقد اختلفوا فيها على قولين:
القول الأول: أن للجمعة سنةً قبليةً راتبةً، وهو قول الحنفية، وقول الشافعية في أظهر الوجهين، وقول الحنابلة في إحدى الروايتين، بل هو قول أكثر العلماء كما يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي.
فعند الحنفية: سنة الجمعة القبلية أربع، والبعدية أربع؛ قال العلامة ابن عابدين الحنفي في “رد المحتار على الدر المختار” (1/ 452، ط. إحياء التراث): [وسُنَّ مُؤَكَّدًا أربعٌ قبلَ الظُّهر، وأربعٌ قبلَ الجمعة، وأربعٌ بعدَها بتسليمة] اهـ.
وقال الشافعية: أقل السُّنّة ركعتان قبلَها، وركعتان بعدَها؛ قال العلامة الخطيب الشربيني الشافعي في “مغني المحتاج على شرح منهاج الطالبين” (1/ 220، ط دار الفكر): [وبعد الجمعة أربع، وقبلها ما قبل الظهر؛ أي: ركعتان مؤكدتان وركعتان غير مؤكدتين] اهـ.
القول الثاني: أنه ليس للجمعة راتبة قبلية، مع مشروعية التنفل المطلق بالصلاة قبل الجمعة، وهو قول المالكية، وأحد قولي الحنابلة.
أما المالكية: فليس عندهم مع الصلوات المكتوبات رواتب محدودات، مع جواز التنفل المطلق؛ قال العلامة ابن شاس المالكي في “عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة” (1/ 133، دار الغرب الإسلامي): [الفصل الأول: في الرواتب، وهي المفعولة تبعًا للفرائض، كركعتي الفجر، وركعة الوتر. وعد القاضي أبو محمد، من ذلك الركوع قبل العصر، وبعد المغرب. وقال في الكتاب: قلت: هل كان مالك يؤقت قبل الظهر من النافلة ركعات معلومات أو بعد الظهر، أو قبل العصر، أو بعد المغرب، فيما بين المغرب والعشاء، أو بعد العشاء؟ قال: لا، وإنما يؤقت في هذا أهل العراق] اهـ.
وأما الحنابلة: فهم متفقون على استحباب الصلاة قبل الجمعة؛ ثم منهم من يجعل ذلك سُنّةً راتبةً، ومنهم من يجعلها نفلًا مطلقًا؛ قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في “فتح الباري” (8/ 333-334، ط. مكتبة الغرباء): [وقد اختلف في الصلاة قبل الجمعة: هل هي من السنن الرواتب كسنة الظهر قبلَها، أم هي مستحبة مرغَّبٌ فيها كالصلاة قبل العصر؟ وأكثر العلماء على أنها سُنَّةٌ راتبةٌ، منهم: الأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه، وهو ظاهر كلام أحمد، وقد ذكره القاضي أبو يعلى في “شرح المذهب” وابن عقيل، وهو الصحيح عند أصحاب الشافعي. وقال كثير من متأخري أصحابنا: ليست سنةً راتبة، بل مستحبة] اهـ.
أدلة القائلين بوجود سنة قبلية راتبة لصلاة الجمعة
استدل القائلون بكونها سنة راتبة بأحاديث كثيرة؛ منها:
حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: جاء سُلَيْكٌ الغَطَفانيُّ رضي الله عنه يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاعدٌ على المنبر، فقعد سُلَيْكٌ رضي الله عنه قبل أن يصلي، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَرَكَعْتَ رَكْعَتَيْنِ؟» قال: لا. قال: «قُمْ فَارْكَعْهُمَا» متفق عليه واللفظ لمسلم.
وفي رواية ابن ماجه في “السنن”: «أَصَلَّيْتَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ؟». وفي رواية أبي يعلى في “مسنده” وابن الأعرابي في “معجمه”: «أَصَلَّيْتَ قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ؟». وإسناده ثقات كما قال الحافظ مجد الدين بن تيمية، وصححه الحافظ العراقي.
وصلاة الجمعة صلاة مفروضة، والأصل أن كل صلاة مفروضة يُشرَعُ قبلها صلاة ركعتين:
فعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا مِنْ صَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ إِلَّا وَبَيْنَ يَدَيْهَا رَكْعَتَانِ» رواه ابن حبان في “الصحيح”، والروياني في “المسند”، والطبراني في “المعجم الكبير” و”الأوسط” و”مسند الشاميين”، والدارقطني في “السنن”، وصححه ابن السكن.
فعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: “كان عبد الله رضي الله عنه يأمرنا أن نصلي قبل الجمعة أربعًا، وبعدها أربعًا، حتى جاءنا علي عليه السلام، فأمرنا أن نصلي بعدها ركعتين ثم أربعًا” أخرجه عبد الرزاق في “المصنف”، والطبراني في “المعجم الكبير”.
وروى سعيد بن منصور في “سننه”: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون قبل الجمعة أربع ركعات، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يصلي قبل الجمعة أربع ركعات، وبعدها أربع ركعات.
قال الحافظ ابن رجب في “فتح الباري” (8/ 334): [وقد كان من هدي المسلمين صلاةُ ركعتين عند خروجهم من بيوتهم، من الصحابة ومن بعدهم، وخصوصا يوم الجمعة، وممن كان يفعله يوم الجمعة ابن عباس وطاووس وأبو مجلز، ورغب فيه الزهري، وقال الأوزاعي: كان ذلك من هدي المسلمين. وحينئذ فلا يستنكر أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي في بيته ركعتين قبل خروجه إلى الجمعة] اهـ.
الرد على من يدعي بدعية صلاة النفل قبل الجمعة
قد رد العلماء على من يدعي بدعية الصلاة قبل الجمعة؛ فصنف الحافظ ابن رجب الحنبلي في هذه المسألة كتابين مستقلين أثبت فيهما مشروعية الصلاة قبل الجمعة، هما: “نفي البدعة عن الصلاة قبل الجمعة”، و”إزالة الشنعة عن الصلاة قبل الجمعة”، وبعده الحافظ ابن الملقن وقد سبق النقل عنه.
قال الحافظ ابن رجب في “فتح الباري” (8/ 335): [فإن قيل: فهو كان يخرج إلى الجمعة عقب الزوال من غير فصل؛ بدليل ما سبق من الأحاديث من صلاته الجمعة إذا زالت الشمس.
قيل: هذه دعوى باطلة، لا برهان عليها، ولو كانت حقا لكانت خطبته دائمًا أو غالبًا قبل الزوال، إذا كانت صلاته عقب زوال الشمس من غير فصل، ولم يقل ذلك أحد.
وأيضا؛ فقد روي أنه كان يصلي الظهر إذا زالت الشمس، كما تقدم في ” المواقيت ” ولم يقل أحد: إنه يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يصلي قبل الظهر شيئًا.
وقد كتبت في هذه المسألة جزءًا مفردًا، سميته: “نفي البدعة عن الصلاة قبل الجمعة “، ثم اعترض عليه بعض الفقهاء المشار إليه في زماننا، فأجبت عما اعترض به في جزء آخر سميته: “إزالة الشنعة عن الصلاة قبل الجمعة”، فمن أحب الزيادة على ما ذكرناه ههنا فليقف عليهما إن شاء الله تعالى] اهـ.
بناءً على ذلك: فسنة الجمعة القبلية مشروعة مستحبة بالأحاديث النبوية الصحيحة، ولا وجه للقول بكراهتها فضلًا عن بدعيتها أو تحريمها؛ سواء قلنا: إن للجمعة سنة راتبة قبلية؛ كما هو قول أكثر العلماء، أو قلنا: لا راتبة لها بخصوصها؛ كما يقول المالكية والحنابلة في رأي، فهي نافلةٌ مستحبةٌ متفَقٌ على مشروعيتها بين علماء الأمة سلفًا وخلفًا، وقد ورد فعلها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجماعةٍ من الصحابة الكرام والسلف الصالح رضي الله عنهم، واتفق على مشروعيتها واستحبابها أهلُ المذاهب المعتمدة، والقول ببدعيتها هو البدعة المنكرة.